يذكّرني تكاثر مؤتمرات المعارضة السورية، وتراجع تأثيرها ودورها معا، بالمؤتمرات التي كانت تعقدها المعارضة نفسها خلال الأشهر الستة التي سبقت تشكيل المجلس الوطني، وكانت تعكس تسابق المجموعات المختلفة على إعلان أبوتها لأي تشكيل جامع جديد، وقطع الطريق على المجموعات الأخرى. ولم ينجح المجلس الوطني في وقف هذه الديناميكية التسابقية، إلا عندما رفضنا الإقصاء، وفرضنا مبدأ التوافق، والتوجه إلى جميع الاتجاهات والتيارات والكتل، لتشكيل جسم تمثيلي واحد.
ولم يضعف دور المجلس الوطني ويدخل في موته السريري إلا عندما عادت الأطراف التي شكلته إلى رياضتها التقليدية في التنازع والتسابق على أبوة المجلس، ووضع اليد عليه، أو إقصاء أطراف أخرى، بهدف التسلط عليه، وفي النهاية قتله.
مؤتمرات للتغطية على عجز دائم
المبررات الرئيسية التي تنعقد بحجتها المؤتمرات التي تحولت، في السنة الماضية، إلى رياضة سياسية، وصارت الإنتاج الوحيد للمعارضة السورية، تتركز على أن الاعتراض على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إما لأنه لا يمثل جميع أطياف المعارضة، أو لا يعبر عن كل فئات الشعب السوري، أو أنه لا يقوم بالمهام الملقاة على عاتقه، أو أنه مرتبط بتيارات وعواصم معينة، من دون أن يراعي مصالح عواصم أخرى وأدوارها. وفي جميع هذه المبررات والذرائع وجهات نظر ليست خاطئة تماما، لكن الوقوف عندها، وترجمتها باستبدال الائتلاف، تقود إلى إعادة إنتاج تشكيلاتٍ، تنطبق عليها المآخذ نفسها بصورة أكبر وأشد.
والحقيقة أن معظم ما يحصل من مؤتمرات باسم المعارضة السورية ينبع من طموح بعض الشخصيات، المشروع أحياناً، للعب دور وتبوّء مركز لم يسمح لها به الائتلاف، أو لا تريد أن تلعبه من داخله، وتجد لدى بعض العواصم الطامعة، أيضاً، في تأكيد حضورها في المناورة الإقليمية والدولية التي تدور على ساحة المشرق، تجاوباً يعكس الاختلاف الكبير في المصالح والتوجهات والمقاربات لدول المشرق ومحيطه. لكن الخاسر الأول من ذلك كله هو القضية السورية والمعارضة التي تفقد صدقيتها، بمقدار ما تتحول إلى معارضاتٍ، تدّعي كل منها شرعية تمثيل السوريين، وتتنافس في ما بينها على كسب ود الدول، وتأمل أن تحظى بدعمها ومساعدتها.
مع ذلك، إذا كانت الدوافع لعقد هذه المؤتمرات، التي تكاد تشمل جميع العواصم الدولية التي أظهرت اهتماما بالوضع المشرقي في السنوات الماضية، هي الطموحات الشخصية، واستغلال بعض الدول هذه الطموحات، فإن استمرارها يعكس أيضا حاجة موضوعية نابعة من تكلس التشكيلات الائتلافية القائمة، وعجزها عن التطور، بموازاة ما يحصل من تغيرات عميقة، في ظروف الصراع على الأرض من جهة، وعلى الفاعلين الرئيسيين، أيضاً. وبالتالي، عن تجديد أشخاصها وأفكارها وأساليب عملها للقيام بالحد الأدنى من المهام التي يفرضها عليها التطور الكارثي للأوضاع السورية والإقليمية. وتشكل المؤتمرات المتجددة فرصة مناسبة للتغطية على العجز، وإظهار تفوق الإرادة، حيث تنعدم القدرة على الإنجاز.
كما كان الحال في الفترة التي سبقت ولادة المجلس الوطني، تحتاج المعارضة السورية، بالفعل، إلى إعادة تشكيل، وإلى انتفاضة داخلية، تخرجها من تكلسها وتكيسها، وتُجدد دماءها، وتطلق قواها وقدراتها، وتحولها إلى أداة فعالة في مواجهة التحديات المتنامية التي يواجهها السوريون، وهم يتعرضون لحرب إبادة حقيقية، أمام صمت العالم، وفي غياب أي إطار تمثيلي معارض، قادر على إبراز معاناة الشعب السوري، وحمل راية كفاحه البطولي المرير، ومواكبة محنته التاريخية غير المسبوقة.
لكن، ما تحتاج إليه المعارضة السورية لتخرج بنفسها من الموت السريري، وتتحول إلى فاعل في الساحة السورية هو تماما عكس ما تقوم به شخصياتها وتجمعاتها اليوم، والتي تكاد كل طائفة منها تكرر ما تقوم به الطائفة الأخرى، في الفكر والعمل والطريقة والأداء، وفي الوثائق والبيانات التي تصدرها، والتي تكاد لا تتميز بعضها من البعض الآخر، إلا بركاكة متساوية في اللغة والأسلوب، وخصوصاً في الأهداف التي تتركز جميعا في طموح كل واحد منها إلى أن يكون حصان السباق في يد هذه العاصمة، أو تلك، لنيل الشرعية والدعم الدولي، واستقطاب المعونات والمساعدات.
بالعكس، ما ينقص المعارضة السورية هو مؤتمر تركيبي، وليس مؤتمرات تجزيئية أو تقسيمية، تزيد من عدد التجمعات المتنافسة والمتسابقة إلى تحقيق مهماتٍ، يفترض إنجازها قبل أي شيء آخر وحدة موقف المعارضة وتفاهمها وتعاونها وائتلافها ويمتنع بانقسامها. فأكبر ما تواجهه المعارضة من تحديات هو التحدث مع السوريين، وباسمهم، بخطاب واحد ولغة واحدة، والتعبير عن مطالبهم في التحكم بمصيرهم ومستقبلهم، ووقف التلاعب الدول والعواصم المتنازعة بمصيرهم، وتمثيل إرادتهم الموحدة في وضع حد للحرب وللنظام المتهالك وتجسيد إرادة العيش المشترك والتفاهم الوطني، والعمل لإعادة بناء سورية الحرة المستقلة الديمقراطية السيدة. ويتطلب هذا كله وجود قيادة سياسية، أي تعاوناً واتفاقاً في الرؤية والمنهج، ويتنافى مع التنافس على اقتسام تمثيلها أو التنازع على شرعية هذا التمثيل، والتسابق إلى تقديم الخدمات للدول والأطراف الدولية بين الأشخاص والقوى والفصائل والتكتلات والمؤتمرات التي تكاد لا تنتهي في عاصمة، حتى تبدأ في أخرى.
فلم يعد يخفى على أحد أن سورية، بعد أن تم حسم موضوع بقاء الأسد ونظامه، وخسرت طهران وحلفاؤها الحرب، مقبلة على حقبة جديدة. وأن معظم الجهود الدولية والإقليمية أصبحت متركزة بصراحة، اليوم، على التفكير في مرحلة ما بعد الأسد، ومتمحورة حول وسائل مقاربتها وتقاسم الأدوار فيها، وأنه لم يعد لدى الأطراف شاغل سوى ترتيب أوراقها، وبلورة تفاهماتها، وحجز مواقعها في سورية الآتية، وأن الأعمال الحربية الجديدة نفسها التي تهدد طهران بتطويرها لصالح حماية الأسد من السقوط قد تحولت إلى وسيلة ابتزاز، للضغط على مفاوضات الحل، أو وسيلة للتموضع استباقا لها. وهذا هو أصلا أحد الدوافع الرئيسية لتنظيم المؤتمرات والاجتماعات التشاورية التي تحاول، من خلالها، بعض الأطراف، الدولية والإقليمية، أن تنتزع لنفسها موقعا في المعارضة، أو أجزاء منها، تعزيزا لدورها، وتوسيع هامش مناورتها الدبلوماسية، قبل بدء المفاوضات السياسية الرسمية المنتظرة.
بين صراعات الزعامة والإعداد للانتقال السياسي
في المقابل، لايزال التفكير في طبيعة هذه المرحلة الجديدة والإعداد لها بالكاد يبدأ في صفوف قوى المعارضة المسلحة والسياسية. ومن المحتمل، إذا لم ننجح في إدراك شروط الصراع فيها، والمهام التي يتوجب علينا القيام بها لمواجهة تحدياتها، أن يكون الشعب السوري، على الرغم من التضحيات غير المسبوقة التي قدمها، الخاسر الرئيسي فيها، وأن يحل تقسيم مناطق النفوذ بين الأطراف الإقليمية والدولية محل مشروع إعادة بناء الدولة السورية الجديدة، على قاعدة المبادئ والتطلعات التي ألهمت الشعب السوري ثورته وتضحياته غير المسبوقة، في الحرية والكرامة والسيادة، وأن يكرس التفاهم الدولي والإقليمي مبدأ تقاسم المصالح بين القوى الخارجية على حساب مصالح السوريين، ووحدة إرادتهم وأرضهم وإعادة بناء وطنهم المدمر، واستعادة سيطرتهم على مصيرهم ومستقبلهم.
إعداد المعارضة المسلحة والسياسية لمواجهة هذه الحقبة التي سوف يتوازى فيها التصعيد العسكري غير المسبوق والقتل الهمجي، كما تشير إليه مجازر النظام في الأيام الماضية، من دون أي رد فعل دولي، حتى ببيانات الإدانة، مع أوسع المناورات السياسية والدبلوماسية، لاستباق اختفاء الأسد من الساحة، والتي سوف يتقرر فيها مصير سورية وشعبها، وبالتالي، المشاركة في وضع أسس المرحلة الانتقالية ومؤسساتها، هو ما ينبغي أن يحدد طبيعة المؤتمر الجديد للمعارضة، والذي يشبه في بعض ملامحه مؤتمرها الجامع الأول الذي عقد في القاهرة في 4 يوليو/تموز 2012، والذي أجهضته تلك الأطراف التي رفضت أن تخرج منه أي لجنة تواصل أو متابعة.
لكن، بخلاف المؤتمرات التي دعت إليها، أو رعتها، أطراف دولية، لا ينبغي أن تقتصر أهداف هذا المؤتمر التركيبي، أو التجميعي، على تجديد وثائق المعارضة وتحديثها، ولا على إنشاء بدائل تحل محل التشكيلات القائمة، أو تتقاسم معها النفوذ داخل سورية وخارجها، ولا على إنشاء كيان أكثر تمثيلا أو فاعلية، ولا ترويج مبادرة سياسية أو رؤية خاصة، وإنما ينبغي أن تتركز على تطوير الرؤية، ووضع الخطط العملية، وتوزيع المهام على الأطراف المشاركة، وتنظيم صفوفها ومساعدتها على العمل تحت قيادة واحدة، أي إعدادها لمواجهة احتمالات تجدد الحرب مع مزيد من التورط الإيراني، أو انهيار النظام المفاجئ، أو تقدم داعش في مناطق المعارضة لحساب النظام، وإعداد الخطط للحيلولة دونها وبناء السلطة البديلة، لبنة لبنة، في إطار الحفاظ على وحدة الدولة وفاعلية المؤسسات والأمن والسلام الأهليين.
باختصار، المطلوب مؤتمر تستعيد فيه المعارضة السورية صدقيتها وفاعليتها وتمثيليتها في الوقت نفسه، إذ تكاد تفقدها جميعا، وهي تفقدها أكثر بمقدار تشتتها وتكرار مؤتمراتها وتشكيلاتها المتنافسة والمتنابذة والمتنازعة. ولن يعيدها الجمع الحسابي للقوى، ولا عدد المجتمعين، ولا البحث عن هويات واهية، يسعى، من خلالها، كل فريق إلى التركيز على أي نقطة اختلاف، حتى يبرر استقلاله بنفسه، وتشكيله قطبا إضافيا قائما بنفسه، ولا تشويه صورة الهويات أو التشكيلات المنافسة، ولا التسابق على كسب تأييد واعتراف الدول الصديقة أو الشقيقة، وإنما، بالعكس، تنمية روح الاتحاد والتفاهم، وتطوير آليات التشاور والتنسيق والتعاون والتكامل، ووضع قواعد ثابتة ومقبولة للتعامل بين الأطراف تساعدها على حل التناقضات وتجنب الانقسامات والمنازعات والعمل كقوة وطنية واحدة. ولتحقيق ذلك لا بد للمؤتمر المنشود من:
– أن يجمع الفاعلين، من عسكريين وسياسيين وناشطين مدنيين، أثبتوا في السنوات الماضية وجودهم بعملهم على الأرض، وفي كل الميادين، لا أن يكون تجميعا للموالين، كائناً من كان من يوالونه، شخصاً أم دولة أم حزبا.
أن يكون هدفه الأول وضع أسس التعاون والتنسيق والعمل المشترك بين الفصائل، وتحديد مرجعيات هذا العمل ومعاييره، وبالتالي، أن يكون هدفه توحيد القيادة، لا أن يكون هدفه تبرير إقصاء الآخرين، أو تحويل فرض قيادة مؤتمر أو شخص أو فصيل على الجميع ودمجهم، بالقوة أو بالوهم، في بوتقته الواحدة.
أن يعنى بالإعداد للمؤتمر، من الأول إلى الآخر، بما في ذلك تنظيمه وتحرير وثائقه وتحديد قوائم المدعوين إليه وتعيين أهدافه، لجنة تحضيرية من السوريين المخلصين والنائين بأنفسهم عن المناصب والنزاعات، من دون أن يستبعد ذلك التشاور والتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة المنخرطة في الصراع، إلى جانب المعارضة، بل بالتأكيد على ضرورتهما.
أن يتم التحضير له عبر نقاشات موسعة مسبقة، تجمع بين الفاعلين السياسيين والعسكريين والناشطين المدنيين، بحيث يأتي تتويجا لتفاهم تم الاشتغال عليه، ويصبح جوهر نشاطه المصادقة، ربما مع تعديلات بسيطة، على الوثائق، وتثبيت الالتزامات المتبادلة، وتوزيع المهام المطلوب إنجازها، لتنفيذ خطة حسم الحرب وترحيل النظام القائم، أو ما تبقى من أنقاضه، ووضع النظام البديل.
أن يزود بوثائق دقيقة ومفصلة ومرتبطة بالواقع، تعد بمشاركة خبراء في كل الميادين، تشمل الرؤية الوطنية لسورية المقبلة، وخطة العمل، والخطوات التنفيذية للانتقال من سورية التوحش إلى سورية المدنية والحضارة، دولة العدالة والكرامة والحرية والقانون.
لا ينبغي للمعارضة السورية أن تضيّع مزيدا من الوقت. فعلى الرغم من التصريحات الانتصارية الاستعراضية لطهران وحزب الله، لم يعد ممكناً لأي طرف، مهما فعل، أن يعيد إحياء نظام الأسد، أو المحافظة على بقائه. فقد تفككت دولته، وانهارت قواته العسكرية، ودب الخلاف داخل قياداته، وفقد جميع مقومات وجوده الأخلاقية والسياسية. ولن تغير القوات الجديدة التي أرسلتها طهران لتعزيز قوات النظام المنهارة في دمشق وحلب، وغيرها من المناطق، ولا الإعلان عن تقلد قاسم سليماني قيادة العمليات على كامل الأراضي السورية، من مصير الحرب، وإن مدّدت في أجلها أشهرا، أو ربما سنوات جديدة، وفاقمت من عمليات القتل والتدمير العشوائية للبلاد. فمصير كل أجهزة السيطرة الاستعمارية التهشيم والدمار. ولن يكون ذلك مستحيلاً على السوريين الذين واجهوا طهران في السنوات الأربع الماضية وحلفائها وهزموهم جميعا.
مطلوب من المعارضة السورية أن تبدأ، منذ الآن، التفكير ببناء نظام سورية البديل، والعمل عليه في كل خطوة وكل وثيقة وكل تحرك تقوم به. وهذه هي أوراق اعتمادها الوحيدة لدى السوريين، أعني تشكلها قوة منظمة قادرة على العمل المتسق والطويل المدى والهادف، بصرف النظر عن الأشخاص وألاعيب السياسة. آن الأوان للمعارضة السورية أن تنضج وتتحرر من هيجانات المراهقة السياسية وارتكاساتها.
العربي الجديد _ وطن اف ام