هل يمكن الحديث، بعد كل هذه الأوضاع الكارثية التي آلت إليها سورية، مجتمعاً ودولة ووطناً وأرضاً، عن “ثورة”؟ أم يمكن الحديث عن حلقة مفرغة دخلتها سورية، ليس منذ اللحظة التي انتفض فيها الشعب، ونزل إلى الشوارع والساحات، يطالب بالحرية والكرامة واستقلال الإرادة، بل منذ عقود، والأرجح قرون، حلقة تبدأ بالقمع ثم التحرير فالانزلاق إلى الأصولية المتطرفة التي أظهر الواقع أنها متجذرة أكثر مما كان في وسع أحد أن يتوقع، ثم القمع مرة أخرى؟
لا بد من طرح أسئلة جديدة، بالإضافة إلى القديمة، يمليها الواقع الجديد، بمتغيراته الكثيرة، فالحديث عن السلمية صار سذاجة، والحديث عن الديمقراطية والعدالة والتعددية والدولة المدنية، وغيرها من الشعارات التي نادى بها الحراك في بداياته، صار حديثاً فيه حد من الحماقة، بل والعدمية أحياناً. فالثورة المنشودة دُفعت، مع سبق الإصرار، إلى العسكرة، الطريقة الأمنية بامتياز التي واجه بها النظام المظاهرات التي خرجت سلمية، لم تنتظر طويلاً، حتى حصدت ردّ الفعل المرجو، ولم يكن منطق المؤامرة وادعاء الإرهاب الذي ما زال النظام يتخذه ذريعةً، من أجل تبرير إدارته العنفية للأزمة، غير مكترث بآلاف الأرواح البريئة من المدنيين التي تحصد على مدار الحرب المشتعلة.
لم يكن هذا المنطق أيضاً عدمياً بالمطلق، أو مختلقاً فقط من النظام، فالواقع يظهر جلياً أن المؤامرة حاضرة وفعالة ونشطة، ومواكبة للحدث السوري، والإرهاب موجود بكثافة، ونشط على جميع المستويات الميدانية والنظرية والإعلامية، ولا يزيده عنف النظام غير عنف أكبر وتطرف أشرس.
الحلقة المفرغة التي تحدثت عنها لا توصل إلى نتيجة، أو لا تحدث أي تغيير غير تغيير الحاكم، فتبتعد العملية عن جوهرها ومعناها، تخلع ثوب الثورة، لتصبح انقلاباً على نظام الحكم فقط، وإعادة إنتاج للظلم والقمع والتخلف والجهل والاغتراب عن الحياة العصرية ومواكبة العالم المتحضر، الانقلاب الذي يزخر تاريخنا به، من قديم وحديث، خصوصاً الفترة التي امتدت من بعد الاستقلال بسنوات قليلة، وحتى انقلاب الحركة التصحيحية، وكلها كانت بادعاء الثورات.
“ما جرى، أخيراً، في قرية قلب لوزة الدرزية، ليس غريباً ولا مفاجئاً كسلوك ينجم عن مجموعة جهادية كالنصرة، فقد كان زعيمها واضحاً منذ البداية، وحتى في ظهوره غير السافر الأخير على شاشة قناة الجزيرة”
وإذا رجعنا إلى بدايات الحراك الشعبي في سورية، وواكبناه إلى اللحظة، حيث من جديد الأحداث الذي يستدعي الوقوف عنده كان قتل مدنيين في قرية قلب لوزة الدرزية في الريف الإدلبي، حيث تسيطر جماعة جبهة النصرة، نرى أن الهوية الإسلامية الشمولية هي التي سيطرت باكراً على الحراك، ثم لم يطل بها الوقت، حتى تجلّت أكثر بصورة أصولية متطرفة جهادية تكفيرية، أولى رسائلها كانت إشهار أجنداتها وبرامجها في الحكم وإدارة المناطق التي سيطرت عليها، بطريقة عنفية ممنهجة صارخة، جريئة حدّ الفجور، منتهكة الهوية الخاصة للشعب السوري، المتعدد الثقافات والمعتقدات، الهوية التي انصهرت، عبر الزمن الطويل، لتأخذ ملامحها الحية.
باكراً جداً، بدأت الملامح الإسلامية، من تسميات أيام الجمعة، عندما كان هناك تظاهرات، إلى تسميات الكتائب المسلحة، بعد أن تحولت المواجهة إلى مواجهات عسكرية، وحتى نضوج الكتائب والألوية واستيلائها على مناطق نفوذ خاصة بها، كلها أسماء إسلامية، أو تستند إلى رمز إسلامي. إلى أن كشّر الفكر القاعدي عن أنيابه، وأسفر عن وجهه الكاره كل من لا ينضوي تحت رايته. من يقول إن تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، غير جبهة النصرة يوارب الحقيقة. يتفق التنظيمان، بشكل كامل تقريباً، في نقطة أساسية، تلخص جوهرهما، فهما يتبعان مدرسة عقائدية واحدة، القاعدة، حيث يصران على تقرير مصير الشعوب المتجذرة في ثقافات ومعتقدات مختلفة، استناداً إلى تصورات تدّعي الكونية، متدرّعة بالقيم المختبئة في التقليد الإسلامي، والحافل به تراثنا وكتب تاريخنا وأدبياتنا ومراجع فقهنا، وكان لا بد لها من أن تنبثق، في لحظة ما، بعد تراكم كم هائل من الظلم والتهميش والإفقار الفكري والروحي لشعوب المنطقة، وبعد أن حطمت الإيديولوجيات الداعية إلى التحرر والبناء الوطني، والأنظمة التي عاشت على حساب شعارات القومية والممانعة، كل أشكال التضامن وممارساته بين شرائح الشعب.
ها هي سورية تتقسم، لكن حتى تقسيمها ليس رحيماً، فهي لا تتقسم بمقص ماهر عالي الكفاءة، إنها تُمزق مثل ثوب في العراء، يئن نسيجه من هول الانتهاك، يؤجّج الغرائز فيها، ويضرمها فكر أصولي متطرف “سني، شيعي”، يتمسكون بأصول التشريع الجامد الذي مضت عليه قرون من دون اجتهاد، يبررون للقتل والإقصاء والتهجير والتكفير والتمييز. تضيع سورية بين طرفين متصارعين، يختبئ في ظلهما صراع إقليمي ودولي، وليس الصراع العقائدي سوى ذريعة لكسب قوى على الأرض، وضمان الفوز بأكبر حصة من سورية، فريق يستند إلى مظلومية تاريخية، وآخر يستند إلى مظلومية حديثة.
ما جرى، أخيراً، في قرية قلب لوزة الدرزية، ليس غريباً ولا مفاجئاً كسلوك ينجم عن مجموعة جهادية كالنصرة، فقد كان زعيمها واضحاً منذ البداية، وحتى في ظهوره غير السافر الأخير على شاشة قناة الجزيرة، النصرة وكل الفرق التي تحارب تحت راية الإسلام من أجل نصرة الإسلام والمسلمين لن يكون، في برنامجهم مستقبلاً، مكان لحياة مدنية، يمكن أن ينعم بها الشعب السوري، فيما لو بقي على قليل من تعدديته وهويته التاريخية، بل سيكون كل أفراد المجتمع خاضعين لشريعة تنضبط حياتهم الخاصة والعامة وفق قوانينها وحكمها وقضاتها، ومن يريد البقاء على دينه، فليدفع جزية لقاء حمايته “ممّن؟” وإلاّ فليغادر.
لم يعد هناك ثورة في سورية، على الرغم من أن الحراك بدأ عفوياً تحت ضغط الشعور بالضيم والاعتداء على كرامته وإرادته. هناك حرب، وهناك قوى أصولية متصارعة، منقسمة بين نظام وداعميه من طرف، ومعارضة غالبيتها أصولية متطرفة وداعميها ومموليها من طرف آخر. لذلك، يجب أن تتغير أسئلة الواقع مع المتغيرات، ولا بد من تركيز الأسئلة، والسعي إلى إيجاد حلول لها، والعمل على تطبيقها، حول العمل السياسي. سورية بحاجة ماسة وملحة إلى حل سياسي، وتحقيق وقف العنف على الأرض هو الخطوة الأساس والأهم في هذه اللحظة.
العربي الجديد _ وطن اف ام