لم نكن بحاجة إلى الرقم المفزع الذي نشرته المفوضية العليا للاجئين هذا الأسبوع لنعرف حجم المآسي التي تمر بها غالبية البلدان في منطقتنا العربية. ستون مليوناً من البشر هجروا بيوتهم العام الماضي، أكثر من نصفهم من الأطفال، ذهبوا إلى الملاجئ والخيم أو ما تيسر من المنافي. أما العناوين التي يتم تشتيت هؤلاء المساكين منها فهي كما تتوقعون: سورية، العراق، اليمن، ليبيا، جنوب السودان، الخ…
بكلام آخر، العالم العربي يفرغ من سكانه. ليست الحدود وحدها هي التي تنهار بين الدول. البشر أيضاً يهربون كيفما استطاعوا، بالشاحنات، بقوارب الصيد، على أقدامهم في العراء تحت الشمس الحارقة. بشر كانوا في زمن ما مواطنين في دول، وأصبحوا الآن مشرّدين على قارعة الطرق، أو على ضفاف الشواطئ، بانتظار دولة ما، منظمة ما، مساعدة ما، تقيهم العطش والجوع.
لا يبالغ المفوض الأعلى للاجئين، البرتغالي أنطونيو غوتيريس، إذ يقول: «عندما نشاهد التلفزيون، يخيل إلينا أن العالم كله في حالة حرب». لا بد من فهم ذلك على ضوء انعكاسات الهجرات على أوضاع العالم كله، أمنياً واقتصادياً وديموغرافياً، لنستطيع تقدير حجم التغيير الجذري الذي تشهده الكرة الأرضية بكل قاراتها نتيجة ما يجري في منطقة الشرق الأوسط.
أكثرية الستين مليون نازح ولاجئ الذين تتحدث عنهم المفوضية آتية من دول عربية. وتشكل الحرب في سورية السبب الأكبر لارتفاع أرقام اللجوء منذ عام 2011. تصف المفوضية عملية النزوح هذه بأنها أكبر عملية نزوح للسكان في العالم على الإطلاق. ما يقارب نصف السوريين اليوم لاجئون أو نازحون (7 ملايين ونصف مليون نازح و4 ملايين لاجئ حتى أواخر عام 2014). والفارق بين النازح واللاجئ لا يعني شيئاً في واقع الأمر، ذلك أن النازحين لن يستطيعوا العودة إلى بيوتهم وسينتهون لاجئين في مخيم ما في بلد ما.
ليست خريطة العالم العربي هي التي تتغير وحدها، جغرافياً وديموغرافياً. فأوروبا، القارة المقيمة على حدود المنطقة العربية تتغير أيضاً تبعاً لذلك. وبسبب هذا القرب الجغرافي، أصبحت ايطاليا واليونان أكثر بلدين تشهد شواطئهما وجزرهما آثار اللجوء. آلاف القتلى شاهدنا جثثهم على الشاشات بعد أن قضوا في عرض البحر قبل وصولهم إلى الشواطئ، أما الذين يصلون وهم على أتعس حال فيشكرون ربهم على النجاة من أهوال البحر ومن أهوال بلدانهم.
أحد المعلقين البريطانيين وصف ظاهرة الهرب المتمادية إلى الجنوب الأوروبي. قال أن نظرة بسيطة إلى المشهد عند تلك الشواطئ تكفي للتأكد من أن دول الجنوب الأوروبي تنزلق أكثر فأكثر إلى ما أطلق عليه مصيراً متوسطياً لهذه الدول، بدل المصير الأوروبي الذي كانت تطمح إليه.
غير أن القلق لا ينحصر في ايطاليا واليونان، اللتين يمكن أن تضاف إليهما إسبانيا بسبب هجرة أهل الشمال الأفريقي عبرها إلى أوروبا. فهذه الدول الثلاث التي تعتبر أفقر من زميلاتها في الشمال الأوروبي تسعى إلى تقاسم عبء المهاجرين مع الدول الأخرى. لهذا يمتد القلق إلى القارة كلها، التي أصبحت أوضاعها الاقتصادية وضماناتها الاجتماعية مغرية لكل طالب لجوء. وستكون القمة الأوروبية في بروكسيل في أواخر هذا الأسبوع مخصصة لمناقشة خطة عمل متكاملة لمواجهة هذه الأزمة. فالدول الأوروبية تشعر أن الحدود وقوانين الهجرة وإجراءات الدخول لم تعد صالحة لمواجهة من يمكن أن نسميهم بالانتحاريين، المستعدين لمواجهة أي خطر للوصول إلى أوروبا.
وهكذا، فمثلما يطمح تنظيم «داعش» إلى إزالة الحدود بين الدول العربية، تأتي موجة الهجرات هرباً من «داعش» وأمثاله لتفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى حدود معاهدة شينغن، التي نظمت ذات يوم إجراءات الدخول إلى بلدان القارة القديمة.
الحياة _ وطن اف ام