قبل تمديد المهلة النهائية لإبرام الاتفاق بين ايران والدول الست المعنية بملفها النووي، أعلن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن الأطراف المشاركة توصلت الى تفاهم رسمي حول المسائل المهمة. وعلى الفور رد عليه نظيره الايراني محمد جواد ظريف بالقول إن مسألة رفع العقوبات لا تزال العائق الوحيد لإبرام اتفاق نهائي.
وكان بهذا الجواب يعبّر عن تمسك طهران بالخطوط الحمر التي رسمها مرشد النظام علي خامنئي، والتي تطالب بإنهاء فوري للعقوبات الاقتصادية في مقابل الموافقة على تقييد البرنامج النووي.
ويرى المراقبون أن المسائل العالقة تحتاج الى أربعة أشهر من أجل التوصل الى حلول مقبولة من الطرفين. إضافة الى العراقيل التي يضعها الكونغرس الأميركي والبرلمان الإيراني. ومثل هذه التعقيدات تشكل حاجزاً في طريق الرئيس حسن روحاني، الطامح الى تخليد اسمه كبطل قومي نجح في رفع العقوبات عن بلاده رغم تشدد المحافظين.
على الطرف الآخر، شدد الرئيس باراك اوباما أثناء استقباله رئيسة البرازيل، ديلما روسيف، على أهمية موافقة ايران على شروط المجتمع الدولي في اتفاق لوزان. أي اتفاق الأطر الذي تم التوصل اليه في مؤتمر لوزان خلال شهر نيسان (أبريل) الماضي. وحذر اوباما من احتمال انسحاب بلاده من المفاوضات في حال انتهت الى «صفقة سيئة». والصفقة السيئة، في نظره، تعني استمرار الخلاف على عمليات تفتيش المواقع العسكرية المشتَبه فيها.
وتعتبر الإدارة الأميركية أن اوباما هو أول مسؤول أميركي عرض فكرة الانفتاح على إيران، متخلياً بتلك المجازفة عن علاقات تاريخية أقامها الملك عبدالعزيز مع الرئيس فرانكلن روزفلت استمرت أكثر من سبعين سنة.
مطلع السنة الماضية أجرت مجلة «نيويوركر» حديثاً مع الرئيس باراك اوباما، تحدث فيه على أوضاع الشرق الأوسط. واعترف في حينه أن حظوظ إبرام اتفاق مع ايران حول ملفها النووي لا تزيد على خمسين في المئة. وحدد الرئيس الاميركي، في ذلك الحديث الخطير، أهمية سياسته الخارجية القائمة على تأسيس توازن جغرافي – سياسي جديد. ورأى أن ذلك التوازن يمهد لخلق أوضاع أكثر استقراراً من الأوضاع التي خلفتها الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية والمذهبية في الشرق الأوسط منذ أكثر من أربع سنوات.
وفي تصريح آخر، لمّح اوباما الى احتمال عقد اتفاقيات أخرى خارج الملف النووي، الأمر الذي أثار اعتراض دول عربية ترى في توسع ايران صورة جديدة لبعث الامبراطورية الفارسية.
وكان من الطبيعي أن ينتقد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن خطوات خلفه، معتبراً أنه يقلد الرئيس ريتشارد نيكسون في سياسة احتواء الدول المشاغبة. وقال إن ظروف انفتاح أميركا على الصين، خلال الحرب الباردة، لا يمكن مقارنتها بظروف الانفتاح على ايران في هذا العصر. وأعرب بوش عن مخاوفه من ردود فعل الدول العربية على هذه السياسة الرامية الى تقليد نيكسون في زيارته التاريخية الى بكين عام 1972 يوم التقى ماو تسي تونغ وشوان لاي. وكان ذلك بهدف تحدي الاتحاد السوفياتي. وهذا ما يراه المراقبون في احتمال تحقيق رغبة اوباما من وراء زيارة طهران السنة المقبلة، إذا نجحت المفاوضات.
ويُستدَل من مراجعة مضمون الرسائل التي تبادلها اوباما مع علي خامنئي أن سياسة الانفتاح بدأت بينهما قبل انتخاب الرئيس حسن روحاني في ربيع 2013. وتضمنت تلك الرسائل تعهداً من قبل اوباما بعدم المشاركة في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.
وبحسب ما ذكرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن اوباما وجّه رسالة الى خامنئي، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، يبلغه فيها أن الغارات الاميركية ضد «داعش» لا تستهدف قوات سورية أو قوات ايران في سورية!
وحول هذا الموضوع، كتبت «واشنطن بوست» إفتتاحية تنتقد فيها سياسة اوباما تحت عنوان: «الانحراف نحو إيران». وفسرت هذا الانحراف بأنه «اعتراف صريح بعجز الولايات المتحدة عن مواجهة مساعي ايران العدوانية في لبنان وسورية والعراق واليمن». وعرضت الصحيفة نص المحاضرة التي ألقاها هنري كيسنجر أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، منتقداً فكرة التقييد الموقت لقدرة ايران النووية، المحددة بعشر سنوات. ثم قال في معرض حديثه عن احتمال نجاح المفاوضات، أن هذا الأمر يتوقف على قدرة علي خامنئي، ورغبته في تحويل بلاده من «قضية ثورية» الى «دولة نظامية».
المجتمع الإسرائيلي منقسم في نظرته الى العلاقات الاميركية المنفتحة على ايران بعد انقضاء أربعين سنة من القطيعة. البعض مطمئن الى التزام اوباما المحافظة على تفوّق اسرائيل العسكري. والدليل أنه رفض المبادرة المصرية المطالبة بعقد مؤتمر دولي حول موضوع نزع السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط. علماً أن إسرائيل وحدها تملك أكثر من مئتي رأس نووي.
ويؤمن هذا الفريق، الذي أقنعه اوباما بجدوى احتكار المجالات الاقتصادية – التجارية في ايران، بأن واشنطن ستزود اسرائيل بسلاح نوعي متطور بما فيه صواريخ «هيلغاير» المضادة للمروحيات وتحصينات الملاجئ العميقة. ومعنى هذا أن ميزان الردع سيظل يميل لمصلحة اسرائيل.
الصحف الأميركية ذكرت أن أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس طلبوا نسخة من الاتفاق المنوي إبرامه، بغرض الدراسة والتعليق. وقد تلقوا النص المطبوع على عشرين صفحة مع خمسة ملاحق. ولكن النص لا يشير الى تحفظ خامنئي المطالب بوقف فوري لجميع العقوبات، وعدم مقاربة موضوع البحث النووي. وتقدر الأموال المحتجزة لدى المصارف والشركات الأجنبية بأكثر من 150 بليون دولار. أي ما يعادل 25 في المئة من الموازنة السنوية لـ «الحرس الثوري». وهذا الرقم – في تقدير الدول الست المشاركة في المفاوضات – كافٍ لإشعال 22 ثورة في 22 دولة عربية!
الأمم المتحدة ترى في إزدواجية السياسة الايرانية إيحاء للوزير جون كيري بأن كل الطرق تؤدي الى النجاح. والسبب أن المعايير التي اعتمدت في لوزان بموافقة الوزير محمد جواد ظريف تختلف كل الاختلاف عن الخطوط الحمر التي رسمها المرشد الأعلى.
ويبدو أن ايران، في هذا السياق، تعتمد الأسلوب الذي مارسه الرئيس كينيدي والزعيم خروتشيف أثناء أزمة كوبا. ذلك أن التصاريح المعلنة لم تكن تعكس الحقيقة المجردة، الأمر الذي أخفى عن مواطني البلدَيْن الصورة الواضحة لتفاصيل الأزمة.
الرئيس الايراني السابق محمود أحمدي نجاد عارض الاتفاق بشدة، مستخدماً في رفضه الخطوط الحمر التي رسمها معلمه ومرشده علي خامنئي. وكانت حملته قوية داخل أوساط «الحرس الثوري»، الأمر الذي اضطر حكومة روحاني الى تحريك دعوى قديمة ضده تتهمه ببعثرة 33 بليون ريال صرفها بين 2008 و2012. وقد امتنع عن المثول أمام المحكمة، علماً أن مذكرة الاستدعاء مؤيدَة من الغالبية النيابية.
قبل مدة قصيرة بعث المستشار السابق دنيس روس برسالة الى الرئيس اوباما يعرب فيها عن قلقه الشديد من أن الاتفاق سيمكّن ايران من تحقيق خططها النووية بسرعة. ومثله فعل ديفيد بترايوس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق وقائد القيادة الوسطى. والاثنان لم يطلعا على صيغة الاتفاق الحقيقية، ولكنهما يستندان في تخوفهما الى ما نُشِر في الصحف.
ويرى الوزير جون كيري أن ايران توقفت عن تخصيب اليورانيوم فوق مستوى خمسة في المئة، وقللت اليورانيوم المخصّب الذي كان في حوزتها. هذا على المستوى التقني. أما على المستوى السياسي، فهو يعتقد بأن الاتفاق مع الدول الكبرى سيبدل من مكانة ايران بحيث تصبح جزءاً فاعلاً من المجتمع الدولي.
مع اقتراب موعد التوقيع، قام البرلمان الايراني بخطوة غير محسوبة لإصدار قانون يمنع التوقيع على كل إتفاق يضرّ بانجازات الدولة وحقوقها في الموضوع النووي.
وعلى الفور، تصدّى الرئيس حسن روحاني مع أعضاء الحكومة لهذا القانون بحجة أن البرلمان غير مخوَّل سنّ مثل هذه القوانين. وأن وحدة ايران الجغرافية والسيادة الوطنية هما من اختصاص مجلس الأمن القومي.
ومن أجل توضيح هذه النقطة للرأي العام الأجنبي، قال رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام علي أكبر هاشمي رفسنجاني لصحيفة «الغارديان» البريطانية إن الدولة كسرت أهم محرّمات الجمهورية الاسلامية. ذلك أنها فتحت مباحثات ثنائية مع الولايات المتحدة التي تسميها طهران «الشيطان الأكبر». ولم يستبعد رفسنجاني في حديثه احتمال إعادة فتح سفارة واشنطن في طهران.
والملاحظ أن رفسنجاني، الملقب بـ «ملك الفستق»، كان ينظر الى المسألة من الناحية التجارية البحتة، ويتوقع عودة بلاده الى ساحة المنافسة الاقتصادية. ومثل هذا التحوّل من شأنه أن يخفف نسبة البطالة التي وصلت الى 40 في المئة في أوساط خريجي الجامعات.
كذلك يعتبر الرئيس روحاني أن تيار الليبراليين والاصلاحيين والمعتدلين قد ربح معركة الانتخابات المقررة في شهر شباط (فبراير) المقبل.
وحول هذه النتائج، يختلف زعماء ايران الذين يؤمنون بأن ثورة 1979 لا يمكن أن تحدث التغيير الذي تتوقعه الدول الغربية. ذلك أن نظامها الفريد يربط بين الدولة والدين، وكل إنفصال بينهما سيقود حتماً الى ثورة ثانية!
المصدر : الحياة