مقالات

محمد زاهد جول – تركيا وأمريكا شراكة لا تبعية

ترتبط تركيا بعلاقات صداقة وتحالف وتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود طويلة، فمنذ أيام الحرب الباردة كانت توجهات السياسة التركية الداخلية والخارجية تنتمي إلى العالم الغربي، وكانت القواعد العسكرية الغربية والأطلسية والأمريكية منارات ترتفع في الأراضي التركية لمراقبة تحركات جيوش الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية في حلف وارسو،

ولكن نهاية الحرب الباردة كان لا بد ان يؤثر على السياسة الخارجية لتركيا، كما أثرت نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة عام 1945 على شروع تركيا بالانفتاح السياسي الداخلي والاعداد لإقرار التعددية الحزبية والسياسية، وقد تحقق ذلك في أول انتخابات برلمانية تركية تعددية عام 1950، وهي الانتخابات التي أزاحت حزب الشعب الجمهوري عن التفرد في حكم تركيا وحده لأكثر من ربع قرن، وقد دفع حزب الشعب الجمهوري ثمن تفرده بالسلطة السياسية لربع قرن بأن لم يعد إليها منفردا بالسلطة وحده بعد ذلك، وكل الحكومات التي شارك فيها كانت حكومات ائتلافية، بما فيها الحكومات التي دخلت فيها الحركة الإسلامية في الحكومة بقيادة نجم الدين أربكان منذ سبعينات القرن الماضي.

هذه القراءة للتاريخ التركي الحديث تظهر علاقة قوية بين ترتيب البيت التركي الداخلي مع التوافقات الدولية وبالأخص على الساحة الأوروبية والأمريكية، فالتحالف التركي الأمريكي والغربي بعد الحرب الباردة ونشوء النظام الدولي الجديد ساهم في حالة الاستقرار في تركيا منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وهذا يعني ان حالة التوتر بين الشرق والغرب لا بد أن تؤثر على الوضع السياسي في تركيا، فوزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر يقول قبل أيام إن روسيا هي العدو الأكبر لأمريكا، مما اضطر وزير الخارجية جون كيري أن يراجع رأي وزير الدفاع بأن روسيا لا تمثل العدو الأول لأمريكا، وتناقض التصريحين من أعلى المستويات الأمريكية دليل على حالة توتر دولي بين روسيا وأمريكا في اكثر من قضية كبرى، منها القضية الأوكرانية والملف النووي الإيراني وقضايا الشرق الأوسط وغيرها، وفي كل الأحوال فإن السياسة التركية منذ ظهور حكم حزب العدالة والتنمية وأردوغان فإن تركيا تميل إلى الاستقلال في قرارها السياسي عن أمريكا وأوروبا مع إدراكها أنها جزءا مهما وأساسيا من العالم الغربي، ولكنها لا تستطيع أولاً التخلي عن مبادئها، ولا متابعة أمريكا والدول الغربية عندما تكيل بمكيالين في القضايا الدولية الخاصة بدول العالم الثالث، بما فيها دول العالم الإسلامي والعالم العربي على وجه التحديد، وهذا ما ظهر في استقلال الموقف التركي عن الموقف الأمريكي في قضية المشاركة في العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة داعش ما لم تضع أمريكا في استراتيجيتها معالجة جذر المشكلة وهو نظام بشار الأسد، الذي ثبت عليه عددا من الاتفاقيات مع داعش في سوريا، منها الاتفاق بينهما على محاربة الجيش السوري الحر، ومنها تسليح جيش الأسد لقوات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال الكردستاني، فهذه التحالفات فضلاً عن أنها لا تتوافق مع الأمن القومي التركي فإنها تؤكد أن بقاء نظام الأسد سوف يطيل عمر تنظيم الدولة داعش في سوريا، وهو ما سوف يجعل القضاء عليه في العراق أمراً مستحيلاً، وهكذا فإن أمريكا مطالبة أن توضح موقفها لتركيا عن طبيعة سياساتها واستراتيجيتها في سوريا، فإذا أرادت التعاون العسكري مع تركيا وتسعى لاستخدام قاعدتي انجيليك وديار بكر العسكريتين للقيام بطلعات عسكرية منها، فلا بد أن تكون هذه الطلعات لصالح التفاهم العسكري التركي الأمريكي، أي لأهداف مشتركة بين تركيا وأمريكا، وليس لأهداف خاصة بأمريكا فقط، وبدرجة أكثر خطورة ان لا تكون هذه الطلعات الجوية ضد المصالح التركية، ولا تهدد الأمن القومي التركي.

هذه التفاهمات التركية الأمريكية تم الاتفاق عليها بعد زيارة مبعوث الرئيس الأمريكي أوباما الجنرال جون ألن ممثل الرئيس أوباما في مواجهة تنظيم الدولة داعش، فتركيا وضعت مطالبها ومصالحها الأمنية أمام المبعوث الأمريكي، وفيهما أكبر قضيتين تشغلان السياسة التركية الخارجية، وهما حل الأزمة السورية، وعدم قيام امريكا بدعم مشروع دولة كردية شمال سوريا، وبعد ذلك يأتي في الترتيب التركي وقف تهديدات داعش في سوريا والعراق، فلا يمكن وقف تهديدات داعش ما لم يتم وضع حد للصراع في سوريا، ووضع حد للأطماع الكردية في شمال سوريا.

لا شك أن الاتفاقيات التي وقعها بشار الأسد مع داعش على محاربة الجيش السوري الحر قد أزعجت الحكومة التركية والجيش التركي، فجاءت التصريحات الأمريكية لطمأنة تركيا، فقال السفير أمريكي في أنقرة جون باس: “إن أمريكا وتركيا قلقتان بشأن داعش في شمال سوريا والحدود التركية، وإننا نعمل معا لدرء هذا التهديد، ونحن واضحون في نقل تطلعات أمريكا وتركيا إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، فالذي يسيطر على الحدود يجب عليه أن يكافح تنظيم داعش، وثمة تقارب بين السياسات الأمريكية والتركية إزاء سوريا”.

إن هذا التصريح الأمريكي يؤكد أن التفاهم الامريكي التركي هو ضمانة المسار الصحيح في شمال سوريا أمنيا وعسكرياً، فتركيا تريد إنقاذ الشعب السوري بكل طوائفه وأعراقه وقومياته؛ العربية والكردية والتركمانية وغيرها، ولهذا فإن تركيا لا زالت تصر على المنطقة الآمنة شمال سوريا من أجل السوريين، وهذه المنطقة لا تعمل تركيا لفرضها وحدها، وإلا لقامت بذلك منذ زمن بعيد، وإنما لا بد أن تتم بدعم دولي تكون أمريكا في مقدمته، حتى لا تخرج الأصوات الرعناء من طهران ولا من دمشق بتهديد تركيا، التي تعمل من أجل الشعب السوري، بينما الذين يصدرون التهديدات قتلوا من الشعب السوري أكثر من نصف مليون سوري وشردوا الملايين منه إلى خارج سوريا.

إن تركيا وهي قادمة على حكومات ائتلافية داخلية مطالبةٌ بترتيب أوراقها في السياسة الخارجية، وفي مقدمتها ترتيب علاقاتها مع أمريكا، التي توترت في السنوات الأخيرة، ولذلك فليس غريباً أن يكون يوم 9/7/2015 هو نفس اليوم الذي توقع فيه تركيا تفاهماً عسكريا مع أمريكا أولاً، ثم يقوم رئيس الجمهورية بتكليف رئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود اغلو بتشكيل الحكومة؛ فأردوغان بخبرته الطويلة في إدارة السياسة التركية الداخلية والخارجية يحكم الترابط بينهما، بحيث لا يجعل التوترات السياسية الخارجية عاملاً معيقاً للسياسة الداخلية، ولا يسمح أن تكون السياسة الداخلية وتشكيل الحكومة الائتلافية القادمة تحت ظروف تهديد من القوى الخارجية، فالتحالفات الداخلية لا بد أن تكون مطمئنة للضوء الأخضر الدولي.

وطن إف إم 

زر الذهاب إلى الأعلى