لكل فرعون هامانه، كما أن لكل طاغية “فقيه جور”، كأحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، قاضي قضاة المعتصم والواثق، ومن قبل خليل المأمون ونديمه زمن الدولة العباسية. وفي مقابل كل “فقيه”، أو “عالم جور”، ثمّة فقهاء وعلماء أحرار وقفوا في وجه الطغيان، ورفضوا أن يكونوا ضمن أدوات ترسانة القمع والكبت لدى الطاغية. من هؤلاء، كان الحسين بن علي رضوان الله عليهما، وسعيد بن المسيب، وأبو حنيفة النعمان، والعز بن عبد السلام.. إلخ. اتفقت مع فقههم وآرائهم ومواقفهم، أم لا، فإنك لا تملك إلا أن تحترم أنهم وقفوا عند مبدأ، ودافعوا عن حق الأمة في اختيار زعمائها ومحاسبتهم.
جدلية الطاغية و”فقيه الجور” لم تنقطع أبدا في تاريخنا الإسلامي المديد، وهي تندرج في سياق جدلية المثقف والسياسي، حيث يقوم المثقف بتبرير الطغيان وتلميع صورة الطاغية وتجميل ذلك للشعب المقموع. فعلها من قبل الفيلسوف الإنجليزي، توماس هوبز، مع الملكية المطلقة، وبعده المفكر الألماني، كارل شميت، مع النازية، ثمَّ الكاتب محمد حسنين هيكل مع الناصرية.. إلخ، غير أن دور عالم الدين، أو فقيهه، أمضى أثراً وأكثر خطراً من دور مفكر أو فيلسوف أو كاتب، ذلك أن العالم والفقيه، إن انحطا، يبرران الطغيان ويسوغان القمع، على المساكين، باسم الله. إنهم يقنعونهم بأن الكبت والمذلة والمهانة قدر من الله، ينبغي التسليم به والرضى بحكمه، وإلا كان سيف “الخروج على الله” مسلطاً على الرقاب من باب الخروج على “الإمام”، ولو كان جائرا.
يشتري الطاغية هؤلاء “الفقهاء” و”العلماء”، بشهوة الحظوة والمال والجاه والمنصب، في حين يشترون هم دنيا الطاغية بآخرتهم من خلال الكذب على الله ورسوله، والزعم أن الإسلام يحض على الانصياع للطاغية وقبول الطغيان. من ذلك ما صرح به قبل أيام مفتي مصر السابق، علي جمعة، من أن طاعة “الخليفة” واجبة، وإن كان ظالماً. وقال: “إذا كان في الأرض خليفة يجب التزامه، حتى وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، والخليفة اللي يعمل كده ظالم والظلم ظلمات، فإن كان في الأرض إمام فالزم الإمام، ومصر لها إمام اسمه رئيس الجمهورية، يجب أن نلتف حوله ونلتزم به”. ولم يقف جمعة عند ذلك، بل استنكر على المناهضين للحكم العسكري في مصر مخالفتهم “الإمام”، مدعيًا أنهم بذلك يخالفون الرسول وهديه، بحجج الثورية، على حد قوله. وختم تصريحاته بنداء قائلا: “إنني بذلك أخاطب أفراد الطائفة المتدينة الذين حملوا السلاح، وخرجوا على المسلمين وغير المسلمين، هؤلاء الناس عصاة ومخالفون لتعاليم الرسول التي تعلمنا أن نلزم غرس الإمام”.
بعيدا عن مسألة حمل السلاح التي عممها جمعة، وكأنها الأصل في مسلكية المعارضين للانقلاب العسكري في مصر، فإن “فقهه”، وعلى الرغم من قماءته، له، للأسف، كما سبقت الإشارة، سوابق في تاريخنا الإسلامي. بل إن منطق جمعة هذا هو استمرار لديدنه منذ زمن الرئيس المخلوع، حسني مبارك، ثمّ تأييده الانقلاب على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وصولا إلى مطالبته قوات الجيش والشرطة بـ”الضرب بالمليان”، أي بالرصاص الحي ضد المتظاهرين المعارضين للانقلاب. الأدهى أن جمعة، كمن سبقه وعاصره من “فقهاء الجور”، لا يتورع عن تحميل الإسلام وزر منطق العبودية والاستكانة، وكأن هذا الدين لم يأت لفك القيود عن الناس وتحرير إرادتهم! بل إن نص القرآن واضح أن جزءاً من مهمة الرسالة التي بُعِثَ بها الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، تتمثل في: “وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ” (الأعراف)، والرسول عليه السلام يؤكد غير مرة: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم” (صحيح البخاري).
يتجاوز جمعة، ومن شابهه، ذلك كله، ويشتط لتبرير تدليسه على الرسول الكريم، بحديث ضعيف: “حتى وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك”، وهي زيادة على حديث صحيح في البخاري ومسلم، ضعفها رواة الحديث ومحققوه، ولم يذكرها البخاري قط في صحيحه. والحديث الصحيح المتفق عليه: “حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، أنه سمع أبا إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها، قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك”.
ما سبق هو نص الحديث في الصحيحين من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة بن اليمان، وليس فيه تلك الزيادة الممجوجة التي يوظفها علي جمعة توظيفا بغيضا لئيما. أما الزيادة فقد جاءت في صحيح مسلم من طريق أبي سلام، وهي زيادة ضعفها الدارقطني، ذلك أن أبا سلام لم يسمع من حذيفة، ولا ممن عاصره. ويعلم علي جمعة النقاش في هذه الزيادة، لكنه اختار أن يتحرّى التزوير والتدليس في سبيل تحقيقه مصالحه الدنيوية. ولو أنصف جمعة لكان تحسب أن يكون في نفسه ومسلكه و”فقهه” ضمن ذلك “الدخن” الذي ينص عليه الجزء الصحيح المتفق عليه من الحديث: “قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا”.
باختصار، علي جمعة ومن ماثلوه ما هم إلا عارض لأزمة أعمق في تاريخ فقهنا الإسلامي، عنوانها “من اشتدت وطأته وجبت طاعته”، وهي مقولة للأسف قال بها غير فقيه وغير مدرسة، من باب قبول غلبة المتغلب. هذه العقلية التسويغية للظلم والطغيان هي ما أنتجت لنا “فقها ذرائعيا” وسمحت بسفك دماء بريئة زكية كثيرة. كان جلّ العلماء يحرّمون الخروج على الأمويين، ثمّ لما انقلبت الكفة لصالح العباسيين، تبدلت المقولات وفتاوى التحريم، وهكذا دواليك. وبمثل هذا “الفقه الإذعاني” المريض، برر بعضهم قتل الحسين بن علي، رضي الله عنه، مظلوما، ووصل الحد بالقاضي أبي بكر بن العربي في كتابه “العواصم من القواصم” إلى أن يقول: “إن الحسين قتل بشريعة جده”، في تبرير للجريمة البشعة بعد قرون من وقوعها! ومن ثمّ فما الذي يمنع أن يخرج علينا اليوم “فقيه” باع آخرته بدنيا غيره، ويقول إن قتل مرسي أو المتظاهرين السلميين تطبيق لحدٍّ من حدود الله! وهم قد قالوها ويقولونها.
المصدر : العربي الجديد