مقالات

عبد الله عرفان -أشباح سوريا.. ومن «الرواية» ما قتل

هناك عوامل مشتركة بين احتقار الصرب للكروات والمسلمين وتباطؤ الولايات المتحدة في التدخل. ففي الحقيقة أن تصورات الولايات المتحدة عن الصراع وتعقيداته ومن ثم إمكانية التدخل لحله تم استقاؤها بشكل كبير من نفس المصادر التي عززت النزعة الصربية الاستعلائية التي جعلت راتكو ملادتيش يقوم بما قام به من مذابح وهو سعيدٌ سعادةَ من يتقرب إلى ربه أو وطنه. عندما قرر جورج بوش الأب عدم التدخل في الأزمة، وتبعه بيل كلينتون في بداية فترته، كان ذلك نتيجة “انطباع” عام بأن المشكلة اليوغسلافية معقدة بما فيه الكفاية؛ لدرجة أن أحدًا من خارجها لن يستطيع حلها.

كانت هذه النتيجة التي خرج بها بيل كلينتون بعد قراءته لكتاب “أشباح البلقان” للكاتب الصحفي روبرت كابلان. بعدها مباشرة قرر كلينتون عدم رفع حظر الأسلحة المفروض على البوسنيين لمساعدتهم على رد هجمات الصرب.

عزز كتاب كابلان “رواية” رائجة تختزل الصراع بين الصرب والكروات والمسلمين إلى نقار ديوك حلت فيهم لعنة شيطانية قادمة من عصور سحيقة تَجدُ حُبورها في النزاع المستمر وتتحقق كينونتها في التدمير الذاتي، والذي لا حول لأحد إيقافه. مثل هذه الرؤية التبسيطية والخيالية أيضًا تتجاهل مسائل أخلاقية مثل من البادئ بالحرب ومسائل أخرى عملية مثل إلى أين تتجة موازين القوى وأي الأطراف ينزف أكثر. هكذا منعت الرواية الرائجة الولايات المتحدة من التدخل مبكرًا لمنع تدهور الحرب وساهمت في تساهلها مع قتل أكثر من 300 ألف مدني وتهجير أكثر من 2 مليون وتدمير مئات المدن والقرى في البوسنة.

تعود بداية رواج هذه الرواية في الغرب بعيدًا إلى الحرب العالمية الثانية عندما نشرت الكاتبة الإنجليزية ربيكا ويست عملها الفني “الحمل الأسود والصقر الرمادي” عن رحلتها في البلقان في 1941.

تمتعت الرواية بنزعة موالية للصرب بقوة ومحتقرة بشدة للمسلمين والكراوت تركت أثرها في جيلين على الأقل من القراء وصانعي السياسة الصرب الذين حولوا تلك المشاهد المروعة للاضطهاد والاحتقار إلى حقيقة ماثلة. ففي مشهد قرب نهاية الرواية، يمسك سائق البطلة أذن طفل كراوتي ويقول له: “سوف نقتلكم جميعًا يومًا ما”، وهو نفس ما حدث بالفعل بين 1992 و1995 على الصرب.

لكن، ما أهمية هذه الرواية في السياق الغربي، والأمريكي تحديدًا؟ هذه الرواية كانت مرجع الكثيرين من الدبلوماسيين وكذلك الصحفيين الغربيين عن تعقيدات التفاعلات البلقانية وحدود التدخل لحلها. فمن الدبلوماسيين الذين تأثروا بها كان وزير الخارجية الأمريكي لورنس إيجل بيرجر في نهاية فترة جورج بوش الأب الذي صرح بأن “هذه التراجيديا لا يمكن حلها من الخارج وأنها فقط مسألة وقت حتى يدرك الجميع ذلك. فحتى يقرر البوسنيون والصرب والكروات التوقف عن قتل بعضهم البعض، لا يمكن للعالم الخارجي فعل أي شيء”، ولكن الأهم من الدبلوماسيين هم الصحفيون، أمثال روبرت كابلان الذي تأثر بالرواية شديد التأثر في كتابه أشباح البلقان والذي قرأه فيمن قرأه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وأثر في تصوره ومن ثم قراراته بخصوص الحرب في البلقان كما أسلفنا في المقدمة.

حَمَل كابلان الرواية التي تقع في أكثر من ألف ومئة صفحة وتحمل أكثر من نصف مليون كلمة معه إلى كل مدينة وقرية وشارع وحارة في يوغسلافيا. تعلق بها وبوصفها الكثيف وتعاريج حبكتها البارعة بأكثر من أي شيء. وَجهت الرواية أقدامه خلال الطرقات كما صكت أفكاره وصاغت تصوراته التي وضعها بعد ذلك في كتابه شديد الإتقان ورائع الوصف، على الرغم من تضليله الواضح. ترك كتاب أشباح البلقان انطباعًا لدى أغلب القراء الغربيين بأن البلقان منطقة معقدة بدرجة كافية لمنع أي أحد من فهمها، ناهيك عن التدخل لحل أي إشكاليات فيها. ما زاد الأمر سوءًا هو تعزيزه لفكرة أكثر جوهرية وهي أن هذه الخلافات قديمة وعميقة وكريهة؛ وبالتالي لا جدوى من أي محاولات للتقريب بين أعداء تاريخيين.

هنا أدت رواية ربيكا ويست ولو بشكل غير مباشر إلى تعزيز إحجام الولايات المتحدة عن التدخل المبكر لمنع الحرب من التوسع في فترة جورج بوش الأب كما عزز كتاب روبرت كابلان نفس الرواية التي أعاقت تدخل بيل كلينتون لأكثر من عامين في حكمه. لا يمكن الاستسلام للقول بأن السبب الوحيد لعدم التدخل الأمريكي كان الرواية والكتاب؛ حيث هناك عوامل الإجهاد العسكري الأمريكي بعد حرب العراق الأولى وكارثة تدخلهم في الصومال في 1993 التي خرجوا على إثرها مهانين ومصدومين. أيضًا، هناك عوامل المعاندة الروسية والتباطؤ الأوروبي وعدم قدرتهم على الحل ورغبتهم في إبعاد الأمريكيين وتعزيز صورة استقلالهم بعد انتهاء الحرب الباردة. كل هذه عوامل حقيقية ومؤثرة لكنها لا تتناقض بالضرورة مع قوة “الرواية” والتي يدرك بها صناع القرار مشكلة معينة وأبعادها؛ وبالتالي حدود قدراتهم على التدخل لحلها.

“أشباح سوريا” هي رواية لم تُكتب لكن أثرها يبدو مماثلًا لسميتها البلقانية في تعزيز لا مبالاة الغرب بمعاناة السوريين وتغاضيهم عن الجرائم التي ترتكب في حقهم من قبل الأسد وحلفائه. تفاصيل الرواية السورية مختلفة قليلًا: فهم مشرذمون لا يجتمعون ويغلب عليهم المتطرفون الذين يعادون العالم. لا يمكننا مساعدة من لا يساعدون أنفسهم، وكذلك لا يمكننا مساعدة من سينقلب علينا بعد الانتهاء من الأسد. هكذا يقولون. بعض من أطراف هذه الرواية السورية حقيقي، لكنها مثل نظيرتها البلقانية تبسيطية ولا تاريخية.

إن اكتشاف منطلقات رواية “الأشباح السورية” ودحض حججها لدى الغرب كما لدى رفقاء الثورة هو واجب الوقت ومفتاح بدء التغيير في مواقف المجتمع الدولي. يالها من تراجيديا كلفت السوريين ربع مليون من القتلى وملايين المشردين والمهجرين وآن لها أن تنتهي. تتوزع المسؤولية بالتساوي على السوريين والغربيين في نزع مركزية مصاصي الدماء وآكلي الأكباد كإطار لتصور الثورة السورية ومن ثم استصعاب مساعدتها. ماذا لو نُسجت رواية أخرى منافسة تُبرز التعايش بين السوريين وتوضح أن التشرذم ليس اختراعًا سوريًا بقدر ما هو خصيصة إنسانية وأن التطرف هو مرحلي مرتبط بفراغ السلطة والقمع الأسدي غير المسبوق؟! لن يكون هذا سهلًا لا في إنتاجه ولا في تصديقه، لكنه السبيل الوحيد لإنهاء المأساة الحالية. دعنا ننتج “روايتنا” لسوريا؛ لعلنا نحيي نفسًا، فكأنما أحيينا الناس جميعًا.

المصدر : التقرير 

زر الذهاب إلى الأعلى