استمع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في الدوحة بقطر إلى العرض أو المحاولة الروسية لحلّ الأزمة السورية، بحضور وزير الخارجية الأميركي. والمعروف أنّ الوزيرين الروسي والأميركي يتشاوران منذ بعض الوقت في المسألة، وهما يتفقان على مبادئ وبنود جاءت في وثيقة «جنيف – 1»، ويختلفان على الكثير من التفاصيل.
وتدور الاختلافات على المرحلة الانتقالية في ثلاث أو أربع مسائل، منها موقع الأسد ومصيره خلال مرحلة الانتقال، ووقف إطلاق النار وَمَنْ يحمي الأمن أو يفرض الهدنة، ومكافحة الإرهاب، وهل تكتفي بقايا الجيش السوري والمؤسسات الأمنية بالقبوع في الثكنات، وهل تتشكل قوة سلام عربية ودولية تحت مظلة الأمم المتحدة لتحمي وقف النار وعودة اللاجئين؟!
الأسد يريد مكافحة الإرهاب، وبعد ذلك لكل حادثٍ حديث. والثوار يريدون إسقاط الأسد وبعد ذلك لكل حادثٍ حديث!
إنّ الجديد في التشاور حول سوريا يتمثل في أربع ظواهر:
– أنّ الأميركيين والروس يعتبرون أنفسهم – رغم خلافاتهم الكثيرة – شركاء في الحلّ السوري، وهذا أمرٌ جيدٌ ينبغي استثماره مبدئيًا في المؤسسات الدولية. وحدود هذا الحلّ أنّ روسيا تستطيع الضغط على الأسد من أجل الحل السياسي، لكنها لا تضمن استجابته إلاّ إذا تعاونت إيران. وهي تريد شيئًا أو أشياء في سوريا لن تظهر قبل نجاح «جنيف – 3» إن وقعت.
وأنّ اتجاه الحملة في اليمن إلى النجاح، يجعل من السعودية شريكًا قويًا باعتبارها الطرف العربي الرئيسي في بحث الأزمة السورية، وإيجاد حلولٍ لها.
وأنّ إيران في موقعٍ حرجٍ الآن بسبب الدخول التركي القوي على الأرض السورية من جهة، ولأنّ سائر الأطراف تتأمل سلوكها بعد الاتفاق النووي.
ما تغير المشهد العسكري الداخلي في الشهور الأخيرة والتي شهدت الاستيلاء على إدلب وجسر الشغور من جانب المعارضة المسلحة بالشمال، واستيلاء «داعش» على تدمر وبعض حقول الغاز في حمص، والتقدم الذي حققته فصائل المعارضة في جنوب سوريا باتجاه درعا. وقد جاء التدخل العسكري التركي ليوقف تقدم المعارضة الكردية المتحالفة مع الأسد. وهكذا فالذي يبدو أنّ المشهد العسكري استقر نسبيًا، باستثناء الحراك الهامشي من حول الزبداني، وما يمكن أن يُحدثَهُ التدخل التركي من إخلاء بعض المناطق من «داعش» و«النُصرة». وقد قال الأسد في خطابه الأخير ما يوشك أن يكون اعترافًا بالمشهد الجديد عندما ذكر أنه ينسحب من مناطق، ليستطيع الصمود في مناطق أكثر أهمية من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية. فهو متحصنٌ بدمشق، والطريق بينه وبين الساحل مفتوح عبر القلمون، وآمِنٌ لجهة لبنان. وقد يحقق بعض التقدم في الريفين الشرقي والغربي لدمشق. وإسرائيل تؤمن الاستقرار والتوازن بينه وبين المعارضة في الجولان والقنيطرة وجبل الشيخ. وليس مؤكَّدًا أن تسقط درعا البلد بيد المعارضة في المدى القريب. واستنادًا إلى الاستقرار النسبي للمشهد العسكري قيّمت الصحافة الأجنبية الخسائر والمكاسب في ذاك المشهد في العام 2015 على النحو التالي: خسر «داعش» 5.4 في المائة من الأراضي التي استولى عليها بسوريا. وكسبت المعارضة (بما فيها جبهة النصرة) 5.11 في المائة، وخسر النظام في شهور هذا العام 5 في المائة من الأراضي التي كانت بيده. إنه مشهدٌ مترجرجٌ، لكنّ ثباته بعكس العام 2014 – يشير إلى أن سائر الأطراف بلغت أقصى ما تستطيعه من جهدٍ سواء لجهة التقدم أو لجهة الصمود.
هل تعود الحركية السياسية للانطلاق بسبب الجمود العسكري، وتفاقم مشكلة اللاجئين، وإحساس الجميع بضرورات التعاون ضد «داعش»؟
لا شكَّ أنّ هذه جميعًا عوامل محرِّكة للسياسات ما دام المشهد العسكري ما عاد يَعِدُ بشيءٍ حاسمٍ لدى سائر الأطراف. إنما هناك محركات غير مباشرة لكنها قوية مثل الاتفاق النووي (انفتاح خط الكلام بين أميركا وإيران على مصراعيه)، ومثل التقدم السعودي في المشهد، ومثل التدخل التركي بالتنسيق مع الولايات المتحدة. لقد اعتبرت بعض الجهات أنّ اندفاعات «داعش» في العامين 2014 و2015 هي التي دفعت إيران باتجاه الاتفاق، وباتجاه إزالة المالكي. وهناك من يقول الآن إنّ التدخل التركي وازَنَ التغلغل الإيراني في سوريا والعراق، وأعطى الولايات المتحدة والعرب إمكانيات للتدخل من أجل الوصول إلى مسارٍ سلمي وسياسي يُضائل التأزم ثم يُنهيه.
تحدث وزير الخارجية الإيراني في الكويت وقطر عن ضرورات التعاون في مكافحة الإرهاب. وقد اعتبر ذلك دليلاً على حسن نيات إيران وإرادتها تحسين العلاقات مع دول الخليج. ولا يزال الروسي والإيراني قبله يعتبران الأسد حاجزًا في وجه الإرهاب، في حين يعتبره الأميركيون والسعوديون جاذبًا للإرهاب بعد أن شارك في صنعه. بيد أن الأميركيين الذين يعتبرون مكافحة الإرهاب أولوية، لا ينزعجون من الحديث بهذا المنحى إذا كان ذلك يلطّف علاقاتهم بروسيا. أما المقاربة السعودية فتنطلق من مكانٍ وموقعٍ آخر: ماذا نقول للشعب السوري إذا غضضنا النظر عن الأسد ولو مؤقتًا في «المرحلة الانتقالية» بعد مقتل نصف مليون سوري على يديه، وسجن مليون، وتهجير 12 مليونًا بالداخل والخارج؟! هل نقول للشعب السوري: تحملوا الأسد لأنه يكافح الإرهاب، بتقاسم المناطق التي يسيطر عليها مع الإيرانيين والميليشيات الشيعية الآتية من لبنان وأفغانستان وباكستان وخراسان.. إلخ؟! ومقاصل «داعش»، ومقاتل «النصرة» إرهاب، أمّا كيماويات الأسد وبراميله المتفجرة فهي مَنٌّ وسلوى؟!
بيد أنّ الاستعصاء الذي بدا في اللقاء بقطر لا يتعلق بمصير الأسد فقط، بل بالمشكلات الهائلة التي يكون على «المرحلة الانتقالية» المسكينة حلَّها: إعادة المهجرين، وإخراج مئات الآلاف من السجون، وحلّ الميليشيات المسلحة الموالية للنظام والمعارضة له، وإخراج الميليشيات الإيرانية والأخرى التي ساعدتها تركيا وقطر.. وهذا كله بعد أو خلال «التعاون» الدولي والعربي والإقليمي في القضاء على «داعش» وأشباهه بسوريا وبالعراق!
طوال خمس سنوات تعرضت سوريا للخراب، وشعبها للقتل والتهجير. وما استطاع العرب أن يفعلوا شيئًا كثيرًا بسبب المخاض الهائل الذي ضرب الدول والمجتمعات. وبسبب التدخلات الإقليمية من جانب طهران بشكل رئيسي، ومن جانب تركيا. ثم بسبب تعطل مجلس الأمن للخلاف بين الولايات المتحدة وروسيا، بحيث تعسر بل استحال استصدار قرار واضح حتى في الشأن الإنساني. وكما قدّر الأسد والإيرانيون فإنّ ظهور المسلحين ثم المتطرفين في المشهد خدم النظام، بل وخدم الميليشيات الطائفية المتأيرنة التي زعمت أنها غزت سوريا لحماية مزارات آل البيت، ثم تبين أن بشار الأسد من خلاصة الخلاصة في آل البيت هو وأخوه!
إنّ المهمَّ الآن أنه قد تكون هناك فرصة تلوح للاستجابة لاستغاثات الشعب السوري. ولا أولى من السعودية في السعي لصنع الفرق البارز الذي يُنهي عمليات القتل، ويحفظ وحدة سوريا. فيا للعرب!
المصدر : الشرق الأوسط