ترتسم في سورية مع اشتداد حربها الأهلية، وعلى رغم النشاط الديبلوماسي الدولي المستجد على هامشها، ملامح دويلات أقربُها إلى لبنان «دويلة العلويين» المفترضة التي ترث عن سورية الأم حدودها معه في شرقه وشماله، في حال نجح الجيش النظامي و»حزب الله» في فرض سيطرتهما على ما تبقى من الجبهة السورية الغربية، أي الزبداني والقلمون.
لكن إجماع الآراء على هشاشة هذا «الكيان» وضعف تكوينه الجغرافي والبشري والاقتصادي يطرح أسئلة عن المخارج التي قد يلجأ إليها بشار الأسد وراعيه الإيراني لضمان حماية حدوده وتأمين بقائه، وسط مؤشرات إلى أن خطوات تعجيز وتيئيس تصاعدية يتخذها «حزب الله» وحلفاؤه في لبنان بمباركة طهران، هدفها البعيد إلحاق لبنان بـ «الكيان» المزمع.
وجاء تشديد وزير الخارجية الإيراني ظريف في بيروت على اعتبار لبنان ضلعاً أساسياً في «محور المقاومة» دليلاً جديداً على تصور طهران لمستقبل هذا البلد ودوره في تكريس امتدادها الإقليمي الذي يقوم أساساً على ادعاء إيران حرصها على قضايا العرب أكثر من العرب أنفسهم.
ويبدو أن الإيرانيين الذين تسلموا زمام الشأن السوري، بمشاركة روسية هدفها إبقاء التغطية السياسية الدولية، ورثوا أيضاً الأسلوب السوري في التعامل مع لبنان. إذ لجأت دمشق عندما أرادت إرسال جيشها إلى أراضيه في 1976 أو إعادة نشره في بيروت بعد انكفائه في 1982، إلى نشر الفوضى الأمنية والسياسية ليكون هو «ورقة الإنقاذ» الوحيدة المتاحة بعد تعطيل الحلول السيادية. وكررت الأمر نفسه في كل مرة واجهت صعوبة ما في فرض رغبتها السياسية فيه.
وعملياً، انقلبت المعادلة الإيرانية في سورية ولبنان بعد أربع سنوات من الثورة السورية والإنهاك الذي أصاب جيش بشار الأسد. وبعدما كانت طهران ترى في سورية سنداً استراتيجياً لحليفها اللبناني «حزب الله» وطريقاً لمده بالسلاح، باتت تطلب من الحزب إسناد النظام السوري ومدّه بعناصر البقاء.
ويفترض هذا التغيير أن يتمكن «حزب الله» من فرض إرادته السياسية والأمنية على كامل لبنان، مع الإبقاء الشكلي والموقت على شعارات «التعددية» و «التوافق» و «المشاركة». وهو ما يتكرس حالياً على الأرض في شكل تدريجي: فلبنان من دون رئيس منذ أكثر من سنتين، وهذا يعني أن المشاركة المسيحية ملغاة، بغض النظر عن محاولات التنفيس التي يقودها حليف الحزب ميشال عون الذي يحصر «المشاركة المسيحية» بشخصه وعائلته. ويرفض الحزب اختيار أي رئيس قد يفكر مجرد التفكير، بأنه ليس من مصلحة لبنان أن يكون عضواً في «محور الممانعة»، ويشترط إن يكون «الماروني الأول» من المؤمنين بالتحول في دور طائفته وبلده.
أما الحكومة اللبنانية بقيادة السنّة، فمعطلة بقرار من الحزب وتعيش تهديداً دائماً بإسقاطها، منتقلة بين الأزمات على رؤوس الأصابع، حتى أنها تعجز عن إيجاد حلول لمشكلات تضغط بقسوة على الحياة اليومية لمواطنيها مثل النفايات والكهرباء والفلتان الأمني.
ويمعن «حزب الله» وتابعوه اللبنانيون من تشكيلات سياسية واهية في إظهار عجز الدولة الشامل عبر محاولات مد التعطيل إلى المؤسسات النادرة التي لا تزال تتمتع بحد أدنى من التسيير الذاتي، بهدف رهن أدائها بتوافق شبه مستحيل، وإلغاء ما تبقى من استقلالية قرارها.
ويتولى قياديون في «حزب الله» من وقت لآخر مواكبة هذا الواقع المنهار بمواقف سياسية تقضم من كيان لبنان السياسي، وتدعو إلى إعادة النظر في اتفاق الطائف «الذي لم يفعل سوى توليد أزمات متلاحقة»، وإلى عقد «مجلس تأسيسي» يعيد تقسيم النفوذ بين الطوائف وإلغاء المناصفة الحالية بين المسلمين والمسيحيين.
ويضغط الحزب تدريجاً لفرض إلحاق الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية باستراتيجيته الدفاعية عن نظام الأسد، ملوحاً بفزاعة «الإرهاب التكفيري»، وهي الفكرة نفسها التي تجهد دمشق وموسكو في تسويقها دولياً، والتي يبدو أنها تلقى قبولاً لدى واشنطن التي ترفع شعار محاربة التطرف في العراق وسورية أولاً.
وعندما يحين الوقت، ويعلن بشار الأسد أن جيشه «مضطر» إلى الانسحاب للدفاع عن «المناطق الأكثر أهمية» في نظر نظامه، أي إلى حدود «الدويلة العلوية»، يكون «حزب الله» قد أتم تحضير لبنان واللبنانيين للالتحاق بالواقع الإقليمي الجديد.
المصدر : الحياة