هل ينتظر المجتمع الدولي مجزرة أخرى ليتحرّك لإنقاذ سورية التي يحلم أهلها بيوم واحد من دون قصف. وهل هناك من ردٍّ فوري، بعد أن أمن بشار الأسد العقاب من مجتمع دولي متخاذل، خصوصاً بعد أن زعم نظامه من قبل الموافقة على التخلي عن ترسانته الكيميائية، على خلفية اتفاق روسي أميركي تفادياً لضربة عسكرية أميركية.
فُجع الناس بمصيبتين، لم يباعد بينهما سوى عامين، تخللتهما مصائب من شاكلة أخرى، تتراوح بين القصف اليومي والموت البطيء. حدثت مجزرة الغوطة في ريف دمشق في 22 أغسطس/آب 2012، ثم حدثت مجزرة دوما في 17 أغسطس/آب 2015، حين أقدمت طائرات النظام السوري على قصف السوق الشعبي في مدينة دوما، ما أدى إلى مقتل 120 مواطناً وإصابة 325 جريحاً.
ما فتئنا يهدُّ ظهورنا ثقل الآلام وتطوق أعناقنا دماء الضحايا هنا وهناك. وما زلنا نترقب بحذر صدور البيانات من النظام والثوار، وكلّها تتحدث عن النصر ودحر الآخر، والأمر في حقيقته هزيمة نكراء. وهذا كله وسط الشجب والقلق الدولي، في بياناتٍ لا تقل هزالة عن سابقتيها لهولوكست آخر عابر لثورات الربيع العربي.
في الواقع، لم ينجح الأسد في التشفي من ضحايا الغوطة، بل هزم نفسه، وهزم شعارات مواليه، حين استجمعت حكومته كل بطشها، وقضت على هؤلاء المنكوبين بحكمه، الموت واحد لهؤلاء، لكنه على الرغم من التظاهر بالنصر، فإنّه يموت ألف مرة، حين لن يشفع له مؤيدوه من بطانة الشر. وقد لا يقف التبرير المعوج لأسباب تجديد القصف على دوما. فهذه المدينة التي تقصفها القوات الحكومية بشكل منتظم، منذ بدء الصراع السوري وسيطرة المعارضة عليها، في محاولة لاستعادتها، كانت قبل الحرب “عاصمة” محافظة ريف دمشق، وأكبر مدن الغوطة الشرقية، كما تمثل ثقلاً جغرافياً واستراتيجياً مهماً.
ما يقع من جرائم وانتهاكات لم يحصل على مرّ التاريخ، فضحايا كيماوي الأسد وحدهم، والذين كان مصيرهم الموت الزؤام الذي لم يأت من السماء، ليستقبله من على الأرض، تمّ بفعل طاغية اختار تحويل الأجساد الغضّة أشلاء. استطاع الأسد أن يحوّل رمزية الموت الثوري المشرّف الذي كانت الجموع فيه تأخذ زينتها في كل ساحة وكل بيت وكل بستان، وكل منعطف يمكن أن يمر به موكب الشهداء المهيب، إلى موتٍ مخزٍ، يحمّل وزره للآخرين، بحجة الدفاع عن كيان دولته المتهالك. فعلى الرغم من أنّه الفاعل الحقيقي المدان، وغير المُحاكم دولياً، فلم يصل الأمر إلى مرحلة السعي الحقيقي من مجلس الأمن في معاقبته.
لا أود التحامل على المعارضة السورية التي ألبستها الحكومة قميص دم المجزرة، لكنها هزمت نفسها، هي الأخرى، حين لم تحرس أسوار المدينة، ولم تستطلع بآلياتها التي وفرتها المنظمات الدولية، ما لم تعجز عن رؤيته زرقاء اليمامة، لو كانت موجودة في طرف ريف دمشق. فطبيعة المنطقة المحروسة بالآليات العسكرية، والمعرضة للقصف اليومي، من المفترض أن تجعل المعارضة على أهبة الاستعداد، ولا يعجزها عن أن ترى من على البعد شجراً يسير.
وإزاء كل ما حدث ويحدث يومياً، يكتفي الإعلام العربي بالإشارة إلى أنّ هناك مشاهد صادمة، يجب توخي الحذر من رؤيتها. هذا الإعلام الذي يخاطب ذوي القلوب الضعيفة، ألم يكن يدري أنّ ممارسة الموت اليومي في هذه المساحة من العالم أصبحت عادة لا تحرّك مشاعر بنيه، ولا مشاعر العالم المرهفة. فليسامح هؤلاء الأطفال كل من يجري في جسده دمٌ عربي، لأنّنا لم نصن إنسانيتهم، قيمة تظلّل العدلَ والحقَّ والكرامةَ والضمير، وكانت فرصة لأن نكون نحن، نحنُ ولا شيء آخر. وأخيراً، هل يستطيع من يوثقون هذه الانتهاكات الحاصلة تصوير كل ما يحدث على أرض سورية من جرائم حرب، أم أنّ هناك مما لا تصل إليه كاميرات الإعلام والناشطين.
أكبر دهشة يمكن أن تحدث على الإطلاق فيما يختص بدور فرق الأمم المتحدة أنّه، بعد هاتين المجزرتين الفاضحتين في وضوحهما وتفاصيلهما، يختار رئيس فريق محققي الأمم المتحدة، السويدي أكي سيلستروم، طريقة أخرى للتحقق من المجزرة، غير الصور الصادمة. يريد الانتقال، على طريقة الأفلام البوليسية، إلى خبايا يتخيلها، تدحض ما يراه حتى يتمكن من التشاور مع النظام السوري للتحقيق في الأمر. ودافعُ سيلستروم للتأني، وعدم معاينة مكان المجزرة، هي رغبته في التحقق من أنباء الهجوم، لأنّه حسبما يقول مستغرباً أنّ ضخامة عدد القتلى تثير الريبة.
تُرى، فيم تفكّر فرق التحقيق هذه، هل يمكن أن يكون هؤلاء الضحايا قد اجتمعوا، ونفذوا انتحاراً جماعياً، لزهدهم في الحياة، ويأسهم من عودة وطنهم المسلوب؟
يناضل أهل سورية وحدهم، ووحدهم يعبّرون عن سخطهم على النظام الذي ارتكب المجزرتين، وعلى العالم الذي اختار الصمت إزاء مأساتهم. لا ندري متى تنتهي ازدواجية الحزن والغضب في سورية، فلا أحد ينكر أن ما تم مأساة بكل تفاصيلها، وهي لا تزيد عن مآسي الحروب التي مرت على التاريخ البشري، لكنها تتفوق بحجم قتل الغيلة والترويع، وما يخبئه سوء أخلاق اجتياح المدنيين. إنّها الفجيعة وحقيقة الموت التي لا يمكن تجاوزها، حتى لو فاض الوقت لمزيدٍ من التحقّق.
المصدر : العربي الجديد