مقالات

حسن أبو هنية – هل يمكن تحرير أحرار الشام من الجهادية المعولمة

في سياق البحث عن إسلاميين معتدلين ضمن فصائل الثورة السورية وفق مقاييس ليبرالية معولمة خاب أمل الداعمين الدوليين والإقليميين، ذلك أن الجهادية السلفية المهيمنة كهوية ثورية تتناقض مع كافة إيديولوجيات العولمة المظفرة والنظام السياسي الحداثي الكوني، وتقع محاولة تحرير أحرار الشام من صفة التطرف ووسم “الإرهاب” ضمن استراتيجية “مكافحة التمرد”، التي تستند إلى ثلاث ركائز أساسية وهي “الإخلاء، والحفظ، والبناء”، والتي تفضي إلى طرد المتمردين من منطقة معينة، ومنعهم من العودة، وبناء مؤسسات محلية موالية، فالولايات المتحدة حسمت خياراتها المتعلقة بمنظومة الحلفاء المعتدلين بالجهات التي تتماهى معها في حرب الإرهاب.

في الحالة السورية الراهنة، على الفصائل المسلحة الراغبة بالدخول في جنة الاعتدال الأمريكي وحدائق حلفائها الدوليين والإقليميين، أن تبرهن عن اعتدالها عبر سلسلة من الإجراءات على صعيد الخطاب والممارسة، تبدأ بإعلان التوبة والندم ثم التبرؤ من تهمتي التطرف والإرهاب، وتتزامن المنظومة الخطابية بالانخراط المباشر عبر ممارسة قتال الإرهابيين المفترضين، وفي مقدمتهم تنظيم “الدولة الإسلامية” أولا وقاعدة الجهاد في بلاد الشام (جبهة النصرة) ثانيا، لكن ذلك لا يتضمن الجلوس مع الكبار على مائدة سياسية واحدة، فأطراف اللعبة يبحثون عن حلول سياسية مع النظام السوري بعيدا عن الفصائل المقاتلة وكأنهم أشباح حالمون بطقوس العبور إلى عوالم الأحياء. 

لا جدال أن حركة أحرار الشام أحد أهم القوى الإسلامية المسلحة في سورية، وقد برهنت الحركة على قدرتها على الاستقطاب والتجنيد، وتمكنت من التكيّف مع ظروف ميدانية معقدة، وبرهنت على فعالية مقاتليها في معارك عديدة، لكن الحركة قامت منذ بروز فكرة تأسيس ” كتائب أحرار الشام الإسلامية” في تموز/ يوليو 2011، كما حددها قائدها السابق أبو عبدالله الحموي حسان عبود، على هوية ملتبسة، فعلى الرغم من أن آبائها المؤسسين ينتمون إلى الفضاء السلفي العمومي، إلا أن هويتها الجهادية تستند إلى تراث الجهادية السورية وممثلها الأبرز “الطليعة المقاتلة” ورمزها الأكبر مروان حديد، ومعظم قادة أحرار الشام الكبار هم من السلفيين الجهاديين الذين أفرج عنهم من سجن “صيدنايا” الشهير أمثال أبو عبدالله الحموي، ومن الجهاديين السوريين العائدين من ساحت القتال التي تتبع تنظيم القاعدة أمثال أبو خالد السوري.

هوية أحرار الشام كما حددتها الحركة بوضوح تنتمي الفضاء السلفي، وتقوم على ” اتباع الكتاب والسنة مع تقديم فهم سلف الأمة الصالح”، دون الدخول في حدود جهادية حدية، إلا أن ذلك كان دافعا إلى نسج علاقات مع تنظيم القاعدة المركزي بزعامة الظواهري والفرع الشامي النصرة بزعامة الجولاني، ذلك أن الحدود الفاصلة لا تبدو جوهرية على الصعيد الإيديولوجي ولا مبررة على الصعيد العملي، كما أن الصلات الإنسانية الشخصية كانت متداخلة بحكم العدو المشترك، وبرسم الأهداف النهائية المتعلقة بتطبيق الشريعة وحلم الخلافة، فعلى الرغم من عدم الإعلان عن صلات تنظيمية مباشرة مع تنظيم القاعدة، فقد كانت قيادة حركة أحرار الشام على تواصل دائم، بل إن الظواهري عندما حدث النزاع بين الدولة الإسلامية والنصرة، بعث بثلاث رسائل واحدة للنصرة واثنتين للأحرار كما كشف عن ذلك القائد العسكري السابق للنصرة وعضو مجلس الشورى أبو سمير الأردني، الذي التحق بتنظيم الدولة الإسلامية، وليس ذلك فحسب بل إن الظواهري طلب من زعيم النصرة الجولاني حل النصرة والانضمام للأحرار، كما أن مبعوث الظواهري أبو خالد السوري كان من الأحرار، فضلا عن كون الجناح الجهادي المعولم داخل النصرة أمثال أبو فراس الشامي وأبو همام الشامي كانا من رفقاء أبو خالد السوري، وجميعهم من أتباع أبو مصعب السوري الذي يعتبر سلطة مرجعية جهادية أساسية لدى النصرة والأحرار، وكان محسن الفضلي أحد أهم الشخصيات الجهادية المعولمة مندوب الظواهري الآخر، ويرتبط بعلاقات وثيقة مع الأحرار، وهذه المجموعة من الجهاديين المعولمين كانت الأشد خطرا بحسب الولايات المتحدة، وهي ذات المجموعة التي أطلقت عليها الحكومة الأمريكية في أيلول/ سبتمبر 2014 “جماعة خراسان”. 

لا شك بأن أحرار الشام دخلت في أطوار تاريخية أفضت إلى سلسلة من التحولات الإيديولوجية والتنظيمية، إلا أن التحول الأبرز جاء عقب مقتل معظم قيادات الصف الأول في 9 أيلول/ سبتمبر 2014، في حادثة لا تزال غامضة، حيث تسارعت خطوات حركة أحرار الشام في محاولة تقديم نفسها كحركة معتدلة، وبدت تصريحات قائد الحركة الجديد هاشم الشيخ المعروف بأبو جابر الشيخ مختلفة، وتطرح تصورات حول مستقبل سورية في ظل “حكم بدستور مصدره الإسلام”، و”حكومة منبثقة عن اختيار الشعب”، و”عقد تراض بين الحكومة والشعوب”، الأمر الذي سوف يصفه المسؤول الشرعي العام في جبهة النصرة الدكتور سامي العريدي بالسعي إلى” علمنة الثورة”.

سوف تتأزم العلاقات مع قاعدة الجهاد في بلاد الشام ــ جبهة النصرة، مع تحولات حركة أحرار الشام الإسلامية بعد إصدارها مؤخرا بيانين منفصلين تعلن فيهما إحداث تغييرات جوهرية في هيكليتها وارتباطاتها، حيث أعلنت عن نيتها تشكيل ما أسمته “جيشاً نظامياً”، ونفت وجود أي علاقة تنظيمية لها مع تنظيم “القاعدة”، الأمر الذي كان يتطلب إعلانا رسميا، نظرا للعلاقات التاريخية بين قيادة الأحرار وقيادة القاعدة، لكن إعادة الهيكلة الإيديولوجية والتنظيمية، سوف تخضع لاشتراطات الاعتدال المعولم، فبحسب بيان الأحرار؛ لا بد من “التفرغ كلياً للعمل في القوة المركزية والالتزام بالعمل في أي منطقة تقتضيها مصلحة الجهاد”، وهي عبارة عمومية تتوافر على اختلاف داخل الحركة في تعريف جبهات القتال، فإذا كان قتال النظام ظاهر في نصوص صريحة، فإن المناطق الأخرى تشير إلى إمكانية القتال على جبهات مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولاحقا إذا اقتضت مصلحة “الجهاد”، مع جبهة النصرة.
لقد سبق لحركة أحرار الشام أن أعلنت عدم وجود ارتباط تنظمي بينها وبين “القاعدة”، حيث أكد مسؤول العلاقات الخارجية لبيب النحاس على ذلك في مقالته المنشورة في صحيفة “ديلي تلغراف “البريطانية، إلا أن ذلك بات رسميا بعد أن صدر عن “القيادة العامة” للحركة، وإن كان مضمون البيانات الجديدة جاء متطابقا مع “ميثاق الشرف الثوري “الذي وقّعته الحركة بمشاركة فصائل أخرى في شهر أيار/ مايو من العام الماضي، والذي أصبح وصمة عار حينها تلاحق موقعيه لدى كافة الجهاديين، وخصوصا جهاديي جبهة النصرة.

بيان “أحرار الشام” لا يكتفي بقطع الصلة مع القاعدة بل مع كافة الفصائل التي كانت من أهم حلفائها على مدى سنوات الثورة والتي تضم جهاديين عرب وأجانب، فعلى الرغم من أن الحركة كانت تتجه نحو مزيد من البراغماتية، والتكيّف مع الشأن المحلي السوري، إلا أنها كانت متحالفة ومنسجمة مع الفصائل التي يهيمن عليها الأجانب، فعندما شكلت أحرار الشام “الجبهة الإسلامية السوريّة” بتاريخ 22 كانون أول/ ديسمبر 2012، تكونت من أحد عشر مجموعة، من بينها “حركة الفجر الإسلامية”، و”كتائب أنصار الشام”، و”لواء الحق”، و”جيش التوحيد”، و”جماعة الطليعة الإسلامية”، و”كتيبة مصعب بن عمير”، و”كتيبة صقور الإسلام”، و”كتائب الإيمان المقاتلة”، و”سرايا المهام الخاصة”، و”كتيبة حمزة بن عبد المطلب”، فضلا عن علاقاتها الوثيقة مع كافة فصائل الجهاديين “المهاجرين”.

لا تقتصر متطلبات الاعتدال على قطع العلاقة مع القاعدة، ولكنها تتطلب قطع العلاقة مع أي فصيل غير سوري، ذلك أن قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة تضعها في ذات المكوّن الإرهابوي، فعندما بدأت بشن هجمات جوية على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا في 22 أيلول/ سبتمبر 2014، شملت الضربات الجوية في سورية المقاتلين الأجانب داخل حركة الأحرار نفسها، وكذلك جبهة النصرة؛ وخصوصا “جماعة خراسان”؛ وهي ترتبط بالنصرة ولها صلات مميزة مع الأحرار، كما شملت الأهداف كافة الفصائل الجهادية التي أسسها مقاتلين أجانب؛ أمثال: جيش المجاهدين والأنصار، وهي مجموعة تشكلت في مارس/آذار 2013 من وحدات جهادية عديدة، وتضم المئات من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من شمال القوقاز، وفي كانون ثاني/ يناير 2014 أعلن “تحالف المهاجرين والأنصار” الذي يضم إلى جانب جند الأقصى لواء الأمة ولواء الحق في إدلب ولواء عمر، ومن أبرز المجموعات الكتيبة الخضراء، وصقور العز، وشام الإسلام، ولواء الأمة، وتعتبر “جبهة أنصار الدين” التي أعلن عن تأسيسها في 25 تموز/ يوليو 2014 من أكبر الفصائل الجهادية للمقاتلين العرب والجانب وتتكون من إتلاف يضم أربعة فصائل وهي: حركة شام الإسلام، جيش المهاجرين والأنصار، حركة فجر الشام الإسلامية، الكتيبة الخضراء، وكافة هذه الفصائل احتفظت بعلاقات مميزة مع أحرار الشام. 

لذلك كان على أحرار الشام أن تقطع صلاتها مع كل هؤلاء بصورة ولا تقل وضوحا عن قطع صلتها بالقاعدة، فبحسب البيان؛ فإن أحرار الشام “حركة سورية وبناؤها الأساسي يعتمد على أبناء الشعب السوري” كما أنها “تسعى من خلال عملياتها العسكرية والسياسية إلى تمكين الشعب السوري من تقرير مصيره بما ينسجم مع تاريخه وهويته الإسلامية ونسيجه الاجتماعي” فــ “أهداف الثورة هي إسقاط النظام بكل رموزه وأركانه وتعتبر مؤسسات الدولة ملكًا للشعب السوري”.

من حق الأحرار أن تبحث عن هوية تحقق طموحاتها المشروعة، لكن ذلك في عالم أشد براغماتية من مثالياتها النبيلة، سوف يدخلها في نزاع مع حلفائها وقد بدأت فور إعلانها، ولا يضمن مستقبلا في عوالم شركائها الجدد، وإذا أصرت على المضي قدما في خياراتها الجديدة، فهي مقبلة على صراعات داخلية تؤذن بضعفها، وفي حال تجاوزتها سوف تدخل في صراعات مسلحة مع حلفائها وشركائها التاريخيين وخصوصا جبهة النصرة، قد تؤذن بتفككها، فحرب الهويات لا تحتمل الحسابات.

المصدر : عربي 21 

زر الذهاب إلى الأعلى