مقالات

ميشيل كيلو – حيونة الإنسان: وقائع ومشاهدات

كنت، أواسط خمسينات القرن الماضي، طالباً في قسم الصحافة في جامعة القاهرة، جئت إليها من مدينة اللاذقية السورية.
 
وكنت مؤمناً، مثل معظم جيلي، بحركة التحرر الوطني التي ملأتنا اعتزازاً بأنفسنا وشعوبنا، وبما غرسته فينا من اقتناع بالتفوق على عالم الإمبريالية البائس، الغارق في الفقر والشقاء، والمرشح، حسب أدبيات سوفييتية كوّنت وعينا، لانهيار وشيك، يحتّمه دخوله في المرحلة الثالثة من أزمة مصيرية، لا مخرج له منها، غير أن اقتناعي بأفكاري هزّته أرقام قرأتها في كتاب حول ميزانية الكلاب السنوية في بريطانيا، واكتشافي أنها تفوق ميزانية الدولة السورية، على الرغم من أن عدد الكلاب هناك أقل من عدد الشعب هنا. يومها، منعتني تقدميتي من مقارنة الإنسان بالكلب، لكنها لم تحل دون شعوري بالمهانة، لكون الثاني يحظى برعايةٍ تفوق ما يناله الأول، وأقلقتني، في الوقت نفسه، أرقامها التي لا تشي بقرب انهيار المجتمع الامبريالي، بل تكشف بؤس بلدان وشعوب حركة التحرر الوطني. 
بعد حين، أخرجت هذه الأفكار اللعينة من رأسي، واستعدت توازني، بفضل أدبيات “الرفاق السوفييت” التي كانت تثبت بأدلة قاطعة أن بلدان التحرر الوطني، ومنها سورية، متقدمة بطور تاريخي كامل على بلدان المعسكر الرأسمالي، الآيل للسقوط والاحتضار.
 
تركت تلك الواقعة في نفسي سؤالاً لازمني دوماً حول العدالة في مجتمع بشري، يهتم بالكلاب أكثر من اهتمامه بأطفال ونساء وشيوخ وشبان، باطلين وفقراء ومرضى، في دول كثيرة، وجعلتني ألقي، فيما بعد، نظرة على نفسي والعالم، مغايرة للتي علمني إياها السوفييت عن حركة التحرر الوطني، اعتمدت فيها معيار القيم المتصلة بالعدالة، وغلبتها على معايير النظم وصراعاتها، وما يقال عن انهيارها وصعودها. وقد تذكّرت نظرتي تلك، عندما رأيت فيلماً عن جهود فريق من العلماء لإنقاذ سمكة قرش مفترسة، يصور بالتفصيل ما حقنوها به من أدوية وأمصال، وما لفوه حولها من قماش يقيها برودة الماء، ويبيّن ما واجهوه من مصاعب، وهم يقيسون دقات قلبها وضغط دمها، وكيف استدعوا طائرة هيلوكوبتر وزورقاً سريعاً ليقلبوا القرش على بطنه برفق، لكي لا يختنق، إن ظل مستلقياً على ظهره.
 
انتقلت إلى الأخبار، فإذا بي أمام أشخاص يستلقون بالمئات على بطونهم وظهورهم في غابة تقع على الحدود بين اليونان ومقدونيا، في حين شكل رجال شرطة، مزودون بالطائرات والسيارات، حواجز تمنعهم من اختراقها، يدفعهم شرطتها إلى الخلف، ويطلقون قنابل مسيلة للدموع باتجاههم، ويرشوهم بالمياه الباردة، ويحولون بينهم وبين سياج حديدي، يحكم الحصار المضروب حولهم، ويمنعهم من الرجوع إلى اليونان، أو التقدم إلى مقدونيا، وقد بانت بين أرجل بالغي الحشد أعداد كبيرة من الأطفال الذين كانوا قد اجتازوا، قبل أيام تجربة مروعة في البحر، وهم يقطعون بقوارب مطاطية متهالكة آلاف الكيلومترات، من دون طعام أو ماء أو دواء، ينهش أبدانهم برد قاتل، وينتظرهم الموت غرقاً.
 
في الخمسينيات، كان الكلب البريطاني يعيش أفضل من المواطن السوري. واليوم، بعد ستين عاماً من حركة التحرر الوطني، تستحيل مقارنة أوضاع الأخير بأوضاع أي حيوان في إفريقيا: أفعى كان أم تمساحاً أم ضبعاً، لأن العالم الذي يوافق على قتل السوريين بالجملة يخشى اختناق قرش مفترس، وينفق لإنقاذه ما يكفي لإنقاذ مئات البشر، ويسخر له الطائرات وزوارق الإسعاف والأطباء، بينما يموتون هم كالذباب أمام ناظريه، غرقاً وجوعاً ومرضاً، وقد أغلقت حدود جميع البلدان بلا استثناء في وجوههم.
 
هذا زمن حيونة الإنسان. دمتم بخير.

 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى