مقالات

حسن أبو هنية – “الدولة الإسلامية” والدكتاتورية العربية

لم يعد خافيا على أحد من الخبراء والمراقبين فشل الحرب الإعلامية التي يشنها الغرب والدول العربية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ذلك أنها تصر على تجنب الخوض في الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت إلى صعود ظاهرة الدولة الإسلامية، وفي مقدمتها تجذر الدكتاتورية العربية المسندة من الإمبريالية الغربية، فالأنظمة الدكتاتورية تتماهى مع الأطروحات الإمبريالية التي تربط بين الأديان عموما والدين الإسلامي خصوصا كمنتج للعنف، في سبيل التهرب من المسؤولية وديمومة الاستبداد. 

الإشكال الكبير الذي يواجه الأنظمة الاستبدادية العربية أنها تماهت مع المقاربة الاستشراقية والثقافوية التي تؤكد على أن الإسلام كدين يتلازم مع العنف بنيويا، ولذلك فإن برامجها المتعلقة بإصلاح الخطاب الديني تبدو عبثية فالأطروحة لا تربط العنف بالخطاب وإنما بجوهر الديانة الإسلامية، وهي مقاربة إمبريالية تتمتع بحضور كثيف لدى نخبة كبيرة من المفكرين في العالم من أمثال المنظر السياسي الراحل صموئيل هنتنغتون والمستشرق العجوز برنارد لويس, وأتباعها في دكتاتوريات العالم العربي لا ينضبون، ويبدو أن أنصار حديث الاستشراق الثقافة مجمعون على أن الدين هو الذي يقود الثقافة والسياسة في العالم الإسلامي، ومتفقون على أن دوافع العنف الإسلامي نابعة من أصولية دينية متطرفة.

 لم يعد خافيا على أحد اليوم مجانبة هذا التحليل للصواب، فضلا عن دوافعه الاستراتيجية الإمبريالية والدكتاتورية المكشوفة وذلك بقصد الهيمنة والسيطرة والتحكم, ومن المؤسف أن هذه المقاربة تجد لها أنصارا و أتباعا في عالمنا العربي والإسلامي من لدن أكثر النخب الثقافية والسياسية والمالية المتحكمة، ولا تزال هذه النخب التابعة والمعزولة تمارس سياسات تحريضية وتعبوية ضد أبناء جلدتها وأمتها، إما طمعا بتحقيق مصالح ومكاسب شخصية أو جهلا بمقاصد الآخرين, ولحسن الحظ لا نعدم وجود أطروحات تفسيرية لافتة للنظر مغايرة للنهج الاستشراقي والثقافوي تبتعد عن حديث الثقافة الفج, لكنها تقع تحت الحصار وتتعرض للملاحقة باعتبارها أطروحات إرهابوية مفترضة.

أحد مفارقات فشل الحرب الإعلامية ضد الدولة الإسلامية التي تقودها الأنظمة الدكتاتورية العربية، أن المناهج التعليمية الدينية المقررة التي أشرفت على وضعها ذات الأنظمة الدكتاتورية لا تختلف عن تلك التي يقوم تنظيم الدولة الإسلامية بتدريسها في ولاياته، كما أن خطب وخطابات الإسلام الرسمي العربي تستند إلى ذات المرجعيات الفقهية التاريخية التي يعتمد عليها خطباء الدولة الإسلامية، الأمر الذي يضع مشاريع إصلاح المؤسسات الدينية في حالة من التناقض والفشل المستدام في سياق البحث عن “الإسلام المعتدل”، وهو مركب يعني في عالم الدكتاتورية ترسيخ أخلاق الطاعة والخنوع والصمت والقناعة والزهد في مباحث الشرعية والمشروعية، وعدم الالتفات إلى الأسباب الحقيقية الكافية للتمرد والعنف، وفي طليعتها مسألة الدكتاتورية، وكما قال رامي خوري إنه “عند الحديث في أروقة السياسة الأميركية على تنظيم الدولة بالعراق وسوريا، تتم مناقشة صياغة التنسيق الجيو-سياسي والسياسات الاستراتيجية العسكرية والدبلوماسية العامة، لكن الأسئلة الخاطئة تسأل ويتم تحديد المخاطر بطريقة خاطئة، ويتم استخدام الأدوات الخاطئة، ويتم تنفيذ السياسات الخاطئة فلا عجب أن تكون النتيجة هي الإخفاقات المتراكمة، الأمر الذي أكده تقرير وزارة الداخلية الأميركية الذي يعترف بالفشل في مواجهة تنظيم الدولة إعلاميا.

لا ترغب الأنظمة الدكتاتورية بالاعتراف بأنها السبب الرئيس في شيوع العنف والتطرف، إذ يرتبط صعود الدولة الإسلامية بقمع ثورات الربيع العربي التي كانت تهدف إلى تمكين الديمقراطية والحرية والعدالة وبناء دول ومجتمعات متمردة على السياسات الإمبريالية والدكتاتورية والدخول في أفق الاستقلال والكرامة والتحرر والنهضة، فقد باتت الإمبريالية وربيبتها الدكتاتورية أشد توحشا وأكثر دموية، وأصبحت صناعة “الإرهاب” مدخلا لإعادة بناء التاريخ الإمبريالي والدكتاتوري التسلطي القمعي، الأمر الذي دفع الجهادية العالمية إلى طرح استراتيجية “اندماج الأبعاد” يالجمع بين قتال العدو البعيد والقريب، وهي حقبة لا تزال في فصولها الافتتاحية.

على الرغم من الخطابات البلاغية المتواترة من سدنة الإمبريالية والدكتاتورية بالتفريق بين “الإسلام” و”الإرهاب”، إلا أن سياسة الحرب على الإرهاب مشبعة بالأثر الاستشراقي الجامع بين المفهومين عبر التسمية الاستشراقية الرائجة حول “الإرهاب الإسلامي، فالغرب كما يشدد إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام”: “لا يرى في المسلمين أكثر من مشاريع إرهابيين أو مزودي نفط… ومعرفة الغرب بالإسلام والشعوب الإسلامية ليست وليدة الهيمنة والمواجهة فحسب، وإنما أيضا ثمرة لثقافة كراهية غريزية”.

إذا تجاوزنا نظرية المؤامرة كأحد أهم النظريات التفسيرية الشائعة في العالم العربي في تفهم سر صعود تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهي نظرية تقع في صلب المنظور الاستشراقي والثقافوي ومقاربته التفسيرية، وهي مقاربة متلبسة بالهيمنة السياسية الغربية والمنظور الامبراطوري الإمبريالي المتحالف مع الوطنيات الدكتاتورية، وتستند إلى النظر إلى العالم العربي والإسلامي كبناء جوهراني سكوني ماضوي معاد للتطور والتحديث، وتقتصر أعمال الفاعلين فيه على إعادة الانتاج والعجز عن الابداع، وبهذا فإن أي حدث في المنطقة العربية الإسلامية لا يمكن أن يتسم بالاستقلال الذاتي، حيث حالة العجز وفقدان الفاعلية، ولا بد من إسناد الفعل والحركة للقوى الحيوية الفاعلة التي تتحدد بالقوى الغربية.

 صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” يستند إلى أسباب وعلل موضوعية وفي مقدمتها مسألة الدكتاتورية، إذ فشلت الدولة القطرية العربية التي جائت عقب الحقية الكولينيالية، في تلبية طموحات شعوبها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فقد تحولت الأنظمة السياسية إلى نمط  الدكتاتورية، وأخفقت في تحقيق التحديث والاستقلال، وقد برز فشل الدولة القطرية على كافة الأصعدة الحيوية، إذ تفشت السياسات السلطوية الدكتاتورية وغاب الحكم الرشيد، حيث نجم عن سوء الحوكمة شعورٌ راسخ بالظلم، وغذّى هذا الشعور القمع والعنف المنهجي الذي تعرّض إليه المواطنون العرب على أيدي حكوماتهم على مدى عقود باعتبارهم خطرا على الأمن الوطني، ولم تكن سياسات الدكتاتورية الاقتصادية أحسن حالا، فهي بطبائعها الريعية الفاسدة، وأنظمتها النيوليبرالية الرثة ساهمت بانهيار الطبقة الوسطى، وانعدام الشفافية ودعمت المحسوبية وقضت على المساواة، الأمر الذي أدى إلى انعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظم الرعاية الاجتماعية. 

فشل الدكتاتورية العربية ثقافيا؛ كان لافتا من خلال أنظمة التعليم العربية فعوضا عن غرس الوعي المدني ومبادئ المواطنة وقيم التضامن الاجتماعي والقبول بالآخر والتركيز على المهارات التحليلية الضرورية والتفكير النقدي، اعتمدت مناهجها على الأساليب التلقينية لا التفاعلية، وعلى التقبّل غير النقدي لفكرة السلطة الهرمية من دون مسائلة، وعزّزت مناهج التاريخ والتربية الدينية عقلية “نحن” في مواجهة “هم”، على أسس عرقية وإيديولوجية وطائفية، ماجعل الشباب عرضة إلى تأثيرات شتّى وساهم في تغيّر المشهد الثقافي العربي بشكلٍ جذري، وسهّل انتشار الإيديولوجيات المتشدّدة والتلقين العقائدي المبكر للأطفال والشباب.

إذا كانت هناك ثمة إرادة حقيقية للحدّ من جاذبية تنظيم “الدولة الإسلامية”، فيجب الخروج من حالة النكران والتخلي عن نهج الاحتيال، والإقرار والاعتراف أولا بأن الدكتاتورية هي أصل الشر، الأمر الذي يتطلب التعامل مع مسألة التطرف العنيف من خلال جملة من الإجراءات بعيدة المدى تتجاوز المقاربة العسكرية والأمنية الآنيّة، وتستهدف معالجة جذرية للأسباب والشروط والظروف الموضوعية العميقة التي أدت إلى ازدهاره ونموه وانتشاره، وذلك عبر تقديم نموذج ناجح للحكم الرشيد يتوافر على تجديد الثقة بإمكانية التغيير والإصلاح، والتخلص من الدكتاتورية، فموضوعة “العنف” و”الإرهاب” هي أحد أهم المنتجات الطبيعية للإمبريالية والدكتاتورية، وهي صناعة رائجة لضمان التحكم والسيطرة والنهب والتخريب، وأداة لمنع خيارات التحرر والاستقلالية والديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة، والهروب باتجاه الإصلاح الثقافوي وصناعة “المسلم المعتدل”، هو ذريعة رائجة للدكتاتوريين، تنشد خلق منظومة من العبيد، مؤهلة للخضوع لديانة الخضوع الدكتاتورية.  

المصدر : عربي 21 

زر الذهاب إلى الأعلى