لا أعرف ما إذا كان السيناتور الأميركي، جون ماكين، بحاجة أن يذكرنا ببعض صفات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والمؤهلات التي بوأته مقعد رئيس قوة كبرى بحجم روسيا. ففي جلسة لمجلس الشيوخ، تزامنت مع بدء القصف الروسي على سورية، وصف ماكين، بوتين بأنه “سفاح” و”قاتل” و”بلطجي”.
بالتأكيد هذه صفات لا يتفرد بها الرئيس بوتين، إذا شئنا الدقة، فمن راح أيضاً يراقب على مدى خمس سنوات قتل مئات آلاف السوريين وتشريد الملايين منهم، وهو قادر على فعل شيء لمساعدتهم ولم يفعل، فلا شك أنه يشارك بوتين بعض الصفات التي ذكرها ماكين. فالسلوك الأميركي الصامت على الجرائم التي تُرتكب بحق الشعب السوري لا يقل، من ناحية أخلاقية، سوءاً عن سلوك بوتين الذي يقوم اليوم بعمليات القتل أو يدعمها، أما إذا شئنا النظر إلى لموضوع من زاوية قانونية فهو يعد شريكاً فيه.
مع ذلك، يبدو أننا نسينا، فعلاً، في زحمة الأحداث، ماضي بوتين وطريقة ولوجه إلى السلطة، وقد انصرف اهتمام بعضنا إلى متابعة، لا بل وتشجيع، محاولاته تحدّي الهيمنة الأميركية في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001. فبوتين هو الرجل نفسه الذي ابتكر ما يسمى اليوم في أدبيات مواجهة التمرد (Counterinsurgency) بـ”خيار غروزني”، عندما قاد حرب الشيشان الثانية التي بدأت في 26 أغسطس/آب 1999، أي بعد عشرة أيام من تبوئه منصب رئيس وزراء روسيا الاتحادية قادماً من عمله السابق سكرتيراً لمجلس الأمن القومي، وانتهت عملياً في 2 فبراير/شباط من العام 2000 بسقوط العاصمة الشيشانية غروزني بيد القوات الروسية، أي بعد شهرين تقريباً من توليه الرئاسة خلفاً لبوريس يلتسين.
وفي الشهور الستة، شكلت غروزني التي محا بوتين معالمها بالطائرات والدبابات جسر عبور رجل المخابرات السابق نحو زعامة روسيا. اليوم، وبالعقلية نفسها تقريباً، يحاول بوتين أن يستخدم سورية لتحقيق جملة أهداف، في مقدمتها تعزيز وضعه الداخلي، بعد أن ذهبت العقوبات الاقتصادية الغربية وانخفاض عائدات الدولة من النفط بجزء كبير من الدعم الشعبي الذي حققه بعد غزوه القرم وضمها، في ربيع العام الماضي.
فقد أكدت استطلاعات الرأي العام ارتفاع شعبية بوتين إلى 86% بمجرد أن بدأت عمليات القصف في سورية، والتي قدمها الكرملين للرأي العام الروسي باعتبارها ضربات استباقية ضد التطرف الإسلامي الذي لن يلبث أن يعود ليستهدف روسيا، كما حصل مرات في الماضي.
اللافت أن نسبة التأييد هذه هي نفسها تقريباً التي حصدها بوتين بعد “انتصاره” في حرب الشيشان الثانية عام 2000 والحرب مع جورجيا في أغسطس/آب 2008، وغزوه القرم في فبراير/شباط 2014، ما يعني أن هناك نمط علاقة (Pattern) يتطور بين مستوى الدعم الشعبي الذي يحظى به بوتين وسياساته الخارجية. وكان الكرملين مهّد لحربه في سورية بنشر تقديراتٍ، مصدرها هيئة الأمن الفيدرالية الروسية، تقول إن أكثر من 2400 مواطن من أقاليم روسيا الإسلامية يقاتلون في صفوف تنظيم الدولة في سورية والعراق.
لكن بوتين، وكما تبيّن، في الضربات الأولى التي قام بها سلاح الجو الروسي في سورية، لم يأت لضرب تنظيم الدولة، لأن التحالف الذي تقوده واشنطن يفترض أنه يقوم بذلك، منذ أكثر من عام، بل جاء لتحقيق جملة أهداف مختلفة، حدها الأدنى منع سقوط النظام الذي يتعرّض، في الشهور الأخيرة، لسلسلة نكسات عسكرية، بدأت تثير شكوكاً حول قدرته على الصمود، وفي حدها الأعلى مساعدة النظام على استرداد مناطق استراتيجية خسرها، أخيراً، خصوصاً في الشمال الغربي وحول العاصمة دمشق.
لكن بوتين، وكما تبيّن، في الضربات الأولى التي قام بها سلاح الجو الروسي في سورية، لم يأت لضرب تنظيم الدولة، لأن التحالف الذي تقوده واشنطن يفترض أنه يقوم بذلك، منذ أكثر من عام، بل جاء لتحقيق جملة أهداف مختلفة، حدها الأدنى منع سقوط النظام الذي يتعرّض، في الشهور الأخيرة، لسلسلة نكسات عسكرية، بدأت تثير شكوكاً حول قدرته على الصمود، وفي حدها الأعلى مساعدة النظام على استرداد مناطق استراتيجية خسرها، أخيراً، خصوصاً في الشمال الغربي وحول العاصمة دمشق.
والمتداول أن الروس انتزعوا، أخيراً، من الايرانيين قيادة عمليات منطقة جورين، ويعدون خططاً لاستعادة جسر الشغور، كما استلموا من حزب الله قيادة عمليات منطقة جوبر في دمشق، ويعدون خططاً لاستعادة طريق الشمال باتجاه حمص. لكن تنفيذ هذه الخطط، بحديها الأدنى والأعلى، يحتاج إلى أكثر من مجرد قصف جوي، فالضربات التي يوجهها سلاح الجو الروسي لن تحقق نتائج أفضل من التي ما فتئ يوجهها سلاح الجو الأميركي ضد تنظيم الدولة، منذ أكثر من عام، كما لم ينجح اعتماد النظام الكلي على سلاح الجو في وقف تقدم المعارضة في أيٍّ من الجبهات التي يجري عليها قتال، ما يعني أن على الروس أن ينزلوا إلى الأرض، إذا ما شاءوا تحقيق نتائج فعلية.
وهناك معلومات شبه مؤكدة تتحدث عن استعداد قوات خاصة روسية للمشاركة في عملياتٍ عسكريةٍ برية في سهل الغاب. هذا يؤشر إلى أن بويتن الذي يبدو، في العلن، حذراً من الانجرار إلى تدخل بري، قد يكون بدأ يخاطر بمزيد من التورط الذي قد يأتي عليه بنتائج عكسية، أولها أن التدخل البري يعني، حكماً، أن جثثاً سوف تبدأ بالعودة إلى الوطن، ما يعني أن الرأي العام الروسي الذي يوليه بوتين عظيم اهتمام سوف يبدأ بالتساؤل عن جدوى التورط في صراعٍ لا ناقة له به ولا جمل، وذلك في ظل مصاعب اقتصادية قائمة أصلاً، ويتوقع أن تتفاقم، والمعروف أن المزاج الشعبي سريع التقلب، ويمكن خسارته بالسرعة والسهولة نفسها التي يجري كسبه فيها.
ثانياً، لا يخاطر بوتين في تدخله في سورية بمعاداة الشعب السوري فحسب، بل العالمين العربي والإسلامي أيضاً. ووفقاً لاستطلاعات رأي عديدة نشرت أخيراً، عادت روسيا تتصدر قائمة أعداء العرب والمسلمين، كما كان عليه الحال عند غزوها أفغانستان، أواخر عام 1979.
كما كان لافتاً أن “تنظيم الدولة” كان الوحيد، من غير النظام السوري وحلفائه، الذي رحب جهاراً بالتدخل الروسي، متوعداً بتسطير “ملحمة أفغانية” جديدة. وعليه، إذا كان بوتين جاء، كما يزعم، ليقضي على خطر “تنظيم الدولة”، فإن تدخله سوف يوفر للتنظيم كل أسباب البقاء والاستمرار، فآلاف الشباب المسلم حول العالم يحلم، اليوم، بالتوجه إلى سورية، لتأدية “فريضة الجهاد”، وسوف يكون بينهم بالتأكيد “مجاهدون” روس كثيرون.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من كل ما تبديه واشنطن من مخاوف واعتراضات، فقد بات واضحاً أنها لا تمانع، إن لم تكن تشجع، على مزيد من التورط الروسي في سورية، فهو إن لم يساعدها في القضاء على تنظيم الدولة، ودفع روسيا إلى تحمل بعض أعباء مواجهته، كما طالب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، فإنها لا تمانع، بالتأكيد، في أن يغرق بوتين في مستنقع جديد يزيد من عزلته واستنزافه، وستمثل هذه مناسبة أيضاً للرد على تلذذ روسيا بالورطة الأميركية في العراق، كما شكلت أفغانستان يوماً الرد الأميركي على استنزاف روسيا لها في فيتنام.
أخيراً، باتخاذها قرار التدخل عسكرياً إلى جانب النظام، خسرت روسيا قدرتها على تأدية دور الوسيط في حل المسألة السورية، وتحولت إلى خصم وعدو للثورة السورية، بعد أن كانت تحاول تأدية دور الحكم، ولن يكون بمقدور حتى المعارضة السورية “الليّنة”، بعد الآن، أن تذهب إلى موسكو، أو أن ترى فيها وسيطاً مقبولاً، ولماذا تكون هناك وساطة أصلاً، وقد دفن الروس، بتدخلهم عسكرياً، كل عملية جنيف وما ترتب عليها من آثار؟
المصدر : العربي الجديد