لم يكن التدخل الروسي العسكري في سورية مفاجئاً لمراقبين كثيرين، فطوال سنوات الحرب الأربع الماضية في سورية، لم تخف موسكو اصطفافها خلف دكتاتور دمشق، بشار الأسد، ودعم نظامه الدموي بالسلاح والعتاد والخبرات.
وكان متوقعاً أن يأتي اليوم الذي تتورط فيه روسيا بالتدخل العسكري، الذي سينتهي حتماً إلى احتلال. وقد بدأت، فعلاً، بعض فصائل المعارضة السورية السياسية تصنف هذا التدخل بأنه احتلال، على الرغم من أن موسكو تقول، إنه جاء بطلب من نظام الأسد “الشرعي”.لكن، ماذا تبقى من شرعية نظام قتل أكثر مئتي ألف من أبناء شعبه، وهجر ونفى 12 مليوناً، وفقد السيطرة على ثلتي بلاده التي حوّل مدنها إلى ركام من الخراب؟
التدخل الروسي المباشر في الحرب السورية، أملته المصلحة الروسية، وتحاول موسكو أن تبرّره بمسوّغاتٍ لن تصمد كثيراً قبل أن تنكشف الحقيقة وتسقط الأقنعة، وتسقط معها رؤوس، وربما قوة كبيرة، مثل القوة الروسية المتنامية.
تبرّر موسكو تدخلها اليوم بأنه جاء لحماية نظام الأسد من خطر التنظيم الإرهابي “داعش” الذي يتمدد مثل سرطانٍ يهدد المنطقة برمتها، لكن المسكوت عنه، في هذا التدخل، سعي موسكو إلى إيجاد موقع قدم لها على خريطة الشرق الأوسط المتحولة، منذ ضربه زلزال ثورات الربيع العربي. وهدفها من هذا الاستعمال المفرط في القوة إيجاد ورقة ضغط، وفي أقرب وقت، لمساومة الغرب، ودفعه إلى غض الطرف عن ابتلاع الدب الروسي جزيرة القرم، ورفع حصاره القاسي على الاقتصاد الروسي. وعندما تحاصر دبّاً وتجوعه، انتظر ردة فعله الهجومية. لكن، مثل كل حيوان هائج، لا يمكن توقع حدود بطشه، قبل أن يخرّ منهكاً بجراحه، وغارقاً في دماء ضحاياه وبين أكوام جثثها.
لا شك أن قادة الكرملين يعون دروس التاريخ القريب، لكن عنجهية القيصر بوتين وغطرسته هي التي دفعته إلى الغوص في المستنقع السوري. فروسيا بوتين تريد أن تستعيد مجد القوة السوفييتية المنهارة. ولذلك، نراه لا يتردد في اللجوء إلى استعمال القوة، وبإفراط، لإثبات وجوده وتأكيد تفوقه العسكري. إنه يعتقد أنه استطاع أن يفرض الأمر الواقع في أوكرانيا بقوة الحديد والنار، واليوم، يريد أن يجرّب اختبار استعراض القوة في سورية. لكن، لا شيء سيضمن أن تنجح التجربة هذه المرة.
السيناريو القريب إلى الحالة السورية ليست أوكرانيا، وإنما هي أفغانستان تسعينات القرن الماضي. في ثمانينات القرن الماضي، تدخل الاتحاد السوفييتي في أفغانستان عسكرياً، لحماية نظام كابول القريب منه ضد ضربات المقاومات المسلحة من داخل بلاده. فقدم الروس، آنذاك، مساعدات عسکرية واقتصادية ضخمة لنظام حليفهم، محمد نجيب الله، ما عزّز من معنويات نظامه، وكبّد المقاومة الأفغانية التي كانت متصارعة فيما بينها خسائر فادحة.
لكن الاحتلال السوفييتي، آنذاك، لأفغانستان، نجح في شيء واحد مهم، هو توحيد صفوفالمقاومة التي وحّدتها الحرب ضد الاحتلال الذي جَر قِوى دولية أخرى إلى الانخراط في تلك الحرب، ولو بطريقة غير مباشرة. انتهت الحرب الأفغانية بالانسحاب المذلّ للاتحاد السوفييتي، ووصول المقاومة إلى أبواب العاصمة كابول، بعد أن فشلت كل محاولات التصدي والتفاوض معها، وتقديم تنازلاتٍ كثيرة لها، قوبلت بالرفض، فسقط نظام نجيب الله، وسقط هو نفسه أسيراً في أيدي مقاتلي “طالبان” عام 1992، لينتهي أمره مشنوقاً ومعلقاً في شوارع كابول.
جاء التدخل السوفييتي في أفغانستان عام 1979 لدعم حليفهم، نجيب الله، ضد هجمات الثوار المعارضين للنظام في كابول، لكن التدخل سرعان ما تحول إلى احتلال دام عشر سنوات من الحروب الطاحنة، تمكّنت فيها المقاومة التي كانت مدعومة من أميركا والسعودية وباكستان والصين من دحر الاحتلال السوفييتي، وأجبرته على الانسحاب عام 1989. وكان من نتائج ذلك الاحتلال تكبيده موسكو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد والسمعة الدولية، وانتهى بالفشل الذريع والبحث عن مخرج من المأزق الأفغاني، فكان ذلك الخروج إيذاناً بنهاية الحرب الباردة التي استمرت أربعة عقود، وإعلاناً مبكراً عن انهيار الإمبراطورية السوفييتية وتفككها.
ما يريد أن يفعله، اليوم، بوتين هو إعادة إحياء مجد الإمبراطورية السوفييتية البائدة، لكنه، مع ذلك، يعيد تكرار الخطأ نفسه، غير آبه بالتعلم من درس التاريخ القريب. فما أشبه الليلة بالبارحة.
من شأن التدخل الروسي، اليوم، في سورية أن يوحّد صفوف المعارضات المسلحة على أرض الواقع التي ستجد نفسها أمام احتلال أجنبي مباشر. كما أن القوى الخارجية الكثيرة المتدخلة في الصراع في سورية ستكون مجبرة على دعم جبهة موحدة للتصدّي للأطماع الروسية في المنطقة، تماماً كما فعلت، أمس، مع الفصائل الأفغانية التي كانت متناحرة فيما بينها، فوحدها القتال ضد الاحتلال السوفييتي والدعم الخارجي لها الذي كان هدفه الإيقاع بالدب الروسي في المستنقع الأفغاني.
لكن، مثلما حصل في أفغانستان، قد يكون المنتصر من الحرب في سورية قوة هجينة، لا أحد يمكنه التنبؤ بها اليوم. تفرزها معطيات الواقع السوري الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد آخر. تماماً كما حصل في أفغانستان، عندما خرجت حركة هجينة اسمها “طالبان” من رماد الحرب منتصراً وحيداً فيها، هذا إذا أمكن أن نسمي من سيغنم الرماد والخراب منتصراً.
المصدر : العربي الجديد