يختصر دنيس روس ما يسّميه «استراتيجية عدم وجود استراتيجية» عند باراك أوباما حيال الأزمة السورية٬ بوصف بارع فحواه أن «الخوف من الانجرار إلى مستنقع آخر يبدو هائلاً جًدا»٬ وأن الإرث العراقي الذي صنعه جورج بوش يشّل البيت الأبيض إلى درجة عصابية تماًما٬ بمعنى أنه إذا كان من الطبيعي أن تحدد تكلفة القرار دائًما نهج الإدارة٬ فإن تكلفة الامتناع عن اتخاذ القرار هي التي تحدد نهج أوباما!
دنيس روس الذي عمل مستشاًرا لأوباما ليس الوحيد الذي يسوق إليه التهم ولا آخر من يقوم بجلد سياسته المترددة حيال سوريا٬ والتي أدت حتى الآن إلى خلافات واستقالات وانقسامات داخل الإدارة٬ وهو ما يبرر حديث البعض عن «ضحايا بشار الأسد في البيت الأبيض»٬ على ما توحي مجموعة من المقالات التي تنشرها الصحافة الأميركية٬ وليس آخرها مقال روس في «واشنطن بوست» في 2015 /10 /13. يأخذ روس على أوباما أنه لم يطرح قط أي تساؤلات ضرورية حول الاحتمالات السورية: ماذا لو أسفرت تلك الحرب الأهلية عن كارثة إنسانية؟ ماذا لو أنتجت أزمة لاجئين ضخمة؛ وهو ما حصل؟ ماذا لو أّدت إلى توسع «داعش» وصعوده؛ وهو ما حصل أيًضا؟
ويمكن أن نضيف: ماذا لو أدت إلى اقتحام فلاديمير بوتين المسرح السوري على حساب الهيبة الأميركية؛ وهو ما يحصل؟ مع بداية التدخل العسكري الروسي٬ نشرت «واشنطن بوست» مقالاً مشترًكا بتوقيع كوندوليزا رايس وروبرت غيتس بعنوان «كيف يمكن لأميركا مواجهة تحركات بوتين في سوريا؟»٬ كان بمثابة إدانة قاسية لسياسة التردد التي تحكم البيت الأبيض٬ لأنه في أوكرانيا وكذلك في سوريا كان بوتين صاحب اليد العليا في تحديد مسارات جديدة للأحداث الجيوسياسية٬ بينما يكتفي أوباما بعقد رهانات مثيرة للاستغراب٬ ففي حين يستعمل بوتين عناصر الضعف الروسي بشكل جيد٬ يواظب أوباما على استعمال عناصر القوة الأميركية بشكل سيئ! لمزيد من السخرية تعلّق رايس وغيتس على مواقف أوباما حيال اندفاعات بوتين بالقول إنه أحيانا يكون رد فعله على هذه الاندفاعات ساخًرا فيعتبرها «إشارة إلى الضعف».. أحيانا يكون عجرفة فيقول: «سيندم على هذا القرار لأنه لا يمكن أن ينجح»٬ وأحيانا يتوّسل التنبيه فيرى أن «اندفاعه سيزيد الوضع سوًءا»٬ وأحيانا يكون تهّرًبا: «بوتين قد تدخل في سوريا ليدعم الاستقرار ويساعد في قتال (داعش)».
في السياق٬ تقول رايس وغيتس إن أوباما لا يواجه سياسة الغطرسة التي يطبقها بوتين الذي يقبل بوجود الصراعات المجمدة من جورجيا إلى مولدوفيا إلى أوكرانيا٬ وقد لا تكون سوريا مختلفة٬ كما أنه لا يعترض على تعريف روسيا للنجاح الذي لا يأخذ في الاعتبار الحال المأسوية للشعب السوري٬ فاللاجئون مشكلة أوروبية والصراع المذهبي من طبيعة الشرق الأوسط٬ والذين يقضون بالسلاح الكيماوي وتحت البراميل المتفجرة هذا من سوء حظهم..
ولكن أين تقف قيم حقوق الإنسان والديمقراطية الأميركية من كل هذا؟ وهل تتلاءم سياسة النأي بالنفس على الطريقة اللبنانية مع صورة أميركا في العالم؟ على خلفية سياسة التردد التي يطبقها أوباما حيال التحدي الروسي سواء في القرم أو أوكرانيا أو حيال المذبحة السورية٬ وجد كثير من المسؤولين في إدارته أن ذلك يرسل إشارات متزايدة عن الضعف الأميركي وتراجع دور واشنطن على المسرح الدولي٬ ولهذا كّرت سبحة الاستقالات التي كان قد افتتحها روبرت فورد السفير الأميركي في دمشق قبل التدخل العسكري الروسي٬ عندما شن حملة قاسية على سياسة البيت الأبيض٬ خصوًصا بعدما ابتلع أوباما الطعم الروسي في مسألة استعمال الأسد السلاح الكيماوي في الغوطتين! وإذا كانت هيلاري كلينتون قد اتهمت أوباما تكراًرا بأنه ترك فراًغا في سوريا ملأه الإرهابيون٬ فإن فريديريك هوف الذي كلفه أوباما الملف السوري سرعان ما قدم استقالته اعتراًضا على عدم وجود استراتيجية أميركية واضحة حيال الأزمة المتمادية٬ التي شهدت تدخلاً ميدانًيا متصاعًدا من الإيرانيين وأذرعهم العسكرية بالتوازي مع الدعم السياسي والدبلوماسي والتسليحي الروسي الذي سبق التدخل العسكري المباشر.
قبل أسبوعين استقال فجأة الجنرال جون ألان مبعوث أوباما الخاص إلى العراق وسوريا والمنسق العسكري للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب٬ الذي شّكل في حدة في أغسطس (آب) من العام الماضي٬ احتجاًجا على عدم جدية البيت الأبيض وإخفاقه المعيب في تأمين العناصر الضرورية لشن معركة حقيقية ضد «داعش»٬ وكانت استقالته أشبه بفضيحة بعد فشل مشروع أوباما في تدريب عناصر المعارضة المعتدلة٬ خصوًصا بعدما تبّين أنه من أصل 15 ألف مقاتل لم يتم تدريب أكثر من سبعين٬ وأن أربعة أو خمسة منهم يقاتلون بينما سقط عناصر «الفرقة 30» وعددهم 45 في يد «جبهة النصرة».
ثم جاءت استقالة إيفلين فاركاس٬ المسؤولة عن الملف الروسي في وزارة الدفاع الأميركية٬ في ما بدا أنها نتيجة خلافات متصاعدة داخل أروقة البنتاغون حول «سياسة متخاذلة» في مواجهة التحدي الروسي في أوكرانيا ثم في سوريا! ومع تواتر الأخبار والتعليقات في الصحف الأميركية عن امتعاض متزايد لدى وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع آشتون كارتر٬ من أن واشنطن لا تواجه بالحزم الضروري والمطلوب استفزازات موسكو٬ خصوًصا بعدما أعلن مدير «سي آي إيه» جون برينان أن المقاتلات الروسية تقصف المعارضين السوريين الذين دربتهم أميركا٬ تصاعدت الانتقادات لما يسمى على سبيل السخرية الُمّرة «ضحايا الأسد داخل البيت الأبيض»!
لكن هؤلاء هم ضحايا سياسة أوباما الذي يواصل سحب أميركا من واجهة المسرح الدولي إلى الظل٬ على خلفية ما يسميه دنيس روس الخوف الهائل جًدا من الانجرار إلى مستنقع آخر٬ لهذا لم يكن غريًبا أن تنشر فصلّية أميركية محترمة هي «فورين بوليسي» مقالاً للكاتب ديفيد روثكويف يعلّق فيه على خطاب أوباما أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة٬ وجاء فيه حرفًيا: «صباح الخير. كعك. أحصنة طائرة. أحادية القرن. أقواس قزح. فلاديمير بوتين شرير. شكًرا جزيلاً لكم». هذا هو محتوى خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. لمزيد من الغرابة كان من المثير أن يجلس أوباما وهو يتعّرق داخلًيا في لقائه الأخير مع برنامج «60 دقيقة» الذي بثته شبكة «سي بي إس»٬ وكان بمثابة محاكمة على الهواء لسياسة سحب أميركا من المسرح الدولي!
المصدر : الشرق الأوسط