لم يقل المفكر السوري النبيل، الجليل والنظيف، الطيب تيزيني، شيئاً عن الجاري في بلاده الآن، وهو يتحدّث أمام مستمعيه في ندوة في طنجة، الأسبوع الماضي، عن الرِّفعة الوطنية في سورية، في زمنٍ ردّ فيه السياسي، الوزير ورئيس مجلس النواب، السوري المسيحي، فارس الخوري (توفي في 1962)، على المستعمر الفرنسي الذي أراد استخدام مسيحيّته في التفرقة بين السوريين، بما يليق، وبكل سموٍّ ومهابةٍ مكينة.
كان تيزيني، في هذا الشاهد، يدلل على الوطنيّة السورية في مسار تكوّن دولتها، ثم طفرت من عينيه دمعاتٌ سخيّات، في بكاءٍ لم يكن منتظراً، ولم تكنّ تفطّراً على ذاك الفارس السوري العتيق، وإنما أسىً كاشفاً عن موت سورية الراهنة، البعيدة عما كان يبنيه فارس الخوري ورفاقه من بناة سورية الناهضة، الملتمّة على ناسها الموحّدين ضد كل خارجٍ معاد، وضد كل شر. بكى الطيب تيزيني ثانية، في الندوة نفسها، وهو في حديثٍ عام عن سورية، وعن نفسه قادماً من حمص الذبيحة، والتي لم يتركها في أتون الجاري، بهمةٍ ونشاط متعدّد الأطراف، في بلاده من فتكٍ وتقتيل وتحطيم.
بدا أمام مستمعيه، في الجلسة المخصصة لمساهمته في الندوة الدولية عن “المجتمع والسلطة والدولة في القرن الحادي والعشرين مغرباً ومشرقاً”، كأنه يُؤثر الصمت، لا يتحمس لقول شيء، كأنه يخفي هزيمةً مرّة بين جوانحه، وهو الثمانيني (مواليد 1934) الذي خاض، طويلاً منذ يفاعته لمّا كان مناضلاً حزبياً، معارك مشهودة في السجال الفكري بشأن نهضة الأمة، وبشأن تجديد الفكر العربي، وظلّ، أطال الله عمره، صاحب مشروع، مهجوساً برهانٍ سياسي ووطني وفكري معلوم، منحازٍ إلى اليسار، وإلى التقدمي في التراث الإسلامي، وإلى الثورة على كل أسباب الهوان والتخلف والجمود.
هل كانت مشاعر الجندي الخاسر تُناوش أستاذنا وشيخنا الطيب، وقد نقلته الطائرة من حطام سورية إلى وداعة طنجة في شمال الوطن العربي، في أثناء حديثه عن الاستقلال ومشاريع الحرية وبناء الدولة العربية المستقلة في سورية، فوجد نفسه يبكي، بتلقائيةٍ، ثم يعتذر للحضور عمّا لم يقدر على منعه؟.
كان، متّعه الله بالصحة والعافية، رائداً في الحفر التجديدي بالتراث الإسلامي في مقارباتٍ خلاقة، في لونها الماركسي واليساري. ولذلك، كنا، نحن طلاب الجامعات العربية، في أولى سنوات ثمانينيات القرن الماضي، نشعر بأن زهونا بيساريتنا، وبتقدميتنا التي طالما ظنناها تقيم فينا، لا يستقيم من دون قراءة الطيب تيزيني، في سفره الأثير “من التراث إلى الثورة” (صدر أول مرة في 1976)، وغيره من كتبٍ، أضاء فيها على طروحات وأفكار واجتهادات من التراث والراهن، وطاف في الأثناء على مقترحاتٍ ونظريات في الغرب والشرق، فأدهشنا، وصار بعضنا من صفّه مع حسين مروة ومهدي عامل، قبل أن يُباغتنا محمد عابد الجابري بحجارته الإشكالية الثقيلة، وكنّا نظنّنا في اطمئنان مع الطيب تيزيني.
تَرى هذا المثقف العربي الرفيع، وتسمع ما يقوله في طنجة، ثم يُحرجك بدموعه، فتشعر بأنه من آخر الرجال المحترمين في هذا الزمن السافل. وقبل أن يشتط جنون تدمير سورية بلداً وشعباً، في نوبةِ حوار أرادته السلطة الحاكمة في دمشق وطنياً، وعقد في صيف 2011، بإدارة نائب رئيس الجمهورية (!) فاروق الشرع (ما أخباره؟)، سمعتَ الطيب تيزيني يُطالب، وبشجاعة، بتفكيك الدولة الأمنية في سورية، ويقول لصانع القرار في السلطة، إنْ أراد أن يسمع، إن الرصاص على السوري يجب أن يكون حراماً. لا يطلب هذا الرجل شعبيةً من أحد، ولا يعبأ بمن يصنّفون الناس على هواهم.
لا يمتنع عن الجلوس مع أهل السلطة، لكنه يقول ما يجب أنْ يقال. لم يُؤثر الرحيل عن سورية، في شيخوخته، ولا يستحسن نجومية الفضائيات. يحب أن يكون الفيلسوف الذي يتأمل الفكرة والجوهر والمعنى، في كل عارضٍ وحادثٍ ومقيم. يحدّق في الثورة وأهلها، وينظر إلى بلده، وهو بين الخراب في حمص، ويتذكّر فارس الخوري، وأسئلة النهضة والتقدم والحرية والوحدة والعدالة… وفجأة يبكي.
المصدر : العربي الجديد