أشعل الرئيس فلاديمير بوتين النار على الأرض السورية، ووضع قِدْرَه على الموقد، واستنفر طباخيه العسكريين والسياسيين والإعلاميين والدينيين أيضاً في حركة دؤوبة، معلناً بداية الزمن الروسي في القضية السورية.
دوافعه إلى ذلك كثيرة ومتنوعة. منها ما هو داخلي روسي مرتبط بالأزمات التي تعاني منها روسيا. ومنها ما هو إقليمي، يتعلق بشبكة المصالح والعلاقات المعقدة والمتحولة في المنطقة. ومنها ما هو دولي شديد الصلة بالمطامح الروسية وصراعها المكتوم مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص.
انطلقت الطائرات الروسية إلى مسرح العمليات تحت غطاء كثيف من البروباغندا الدولية الرائجة تحت اسم «محاربة داعش». وأعلنت قيادتها العسكرية عن إنشاء غرفة عمليات إقليمية في بغداد، وإجراء تنسيق شامل مع إسرائيل. وتولت الاستخبارات السورية تزويدها ببنك الأهداف المطلوبة والمرغوبة. وبعد شهر واحد من التحشيد حول الحملة الروسية، «ذاب الثلج وبان المرج»، وسقطت كل الأوراق والأوهام ورسائل التضليل عن الأهداف العسكرية والسياسية الحقيقية لهذه الحملة.
فالمناطق التي استهدفت بالقصف، كانت في معظمها مناطق لـ «الجيش السوري الحر» بنسبة 96 في المئة، ولم تقصف الطائرات الروسية أهدافاً «داعشية» إلا بنسبة 4 في المئة فقط. وكان عدد الضحايا من المدنيين أضعافاً مضاعفة من الثوار والمسلحين وحملة البنادق على الأرض. ومع ذلك فشلت الحملة في جهدها الرئيس المطلوب، وهو تغيير ميزان القوى على الأرض، ومساعدة النظام على استعادة ما فقده عبر هزائمه المتوالية منذ بداية 2015، في محافظات ريف حلب وإدلب وحماة ودرعا.
وظهر للعيان حجم المخادعة في السياسة الروسية. إذ تعلن الإلتزام بوحدة وسيادة واستقلال سورية، والحرص على الدولة ومؤسساتها، في الوقت الذي تنتهكها وتعتدي على شعبها. وتحول دون صدور مشروع فرنسي لمنع استخدام البراميل المتفجرة ضد السوريين، عندما ادعى مندوبها لدى الأمم المتحدة بأن إسقاط البراميل قد توقف. ثم شهد العالم إسقاط 94 برميلاً على مدينة داريا بعد ذلك.
غير أن أخطر ما قام به الطيران الروسي بضرباته الموجهة والمدروسة جيداً، هو رسم معالم الكانتون الطائفي الذي يريد بشار الأسد الدفاع عنه وتحصينه وأخذه رهينة، توضع عند الحاجة في المقايضات والتسويات المحتملة. فالقذائف التي أُلقيت على شمالي محافظة اللاذقية وعلى طول سهل الغاب وغربي حمص، أرادت أن تقول في رسالة واضحة: هذه محمية روسية، ممنوع الاقتراب منها.
بعد فشل الجهد العسكري الروسي في إجراء التغيير المطلوب على الأرض، سارعت السياسة الروسية – في عملية لكسب الوقت وحفظ ماء الوجه – نحو بذل جهود مضنية لعقد مؤتمر فيينا الرباعي ومن بعده الموسع، والذي جاء على شكل مهرجان دولي دعي إليه الجميع. وكان منبراً لسماع الأصوات المتناقضة والمتباينة حيناً، وتلك التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة حيناً آخر. تم ذلك في غياب السوريين، وجاءت النتائج في البيان الختامي باهتة ومتواضعة، تعكس محصلة تسووية روتينية لرياح تهب من جميع الجهات.
هدية مجانية ومن دون استحقاق تم تقديمها لإيران بدعوتها للمشاركة في مؤتمر فيينا. لأنها لم تعترف حتى اليوم بالعملية السياسية التي بدأت في جنيف 1. وبدت مشاركتها شاذة وعامل استفزاز، كدولة ما زالت تعتمد خيار الحل العسكري وتدعمه على الأرض بجميع الأشكال. كذلك كانت مشاركة دول كلبنان والعراق ومصر، التي تعاني شعوبها ما تعاني، ولو كانت قادرة على المساهمة في حل مشكلات الآخرين، فلم لا تعمل على حل مشكلاتها الخاصة، وهي من النوع نفسه؟!
غير أن التوجهات الروسية، التي التقطها المبعوث الأممي دي ميستورا ورددها باعتبار بيان فيينا رديفاً لبيان جنيف 1 كمرجعية للعملية السياسية، تبدو في العمق أشد خطراً مما تبدو على السطح. فهو مسعى دأبت عليه السياسة الروسية، بعد أن أظهرت ندمها على الموافقة على مشروع المبعوث الدولي كوفي أنان عام 2012، الذي أنتج بيان جنيف 1، وتحاول منذ ذلك الوقت حرف العملية السياسية عن مسارها بضرب منطلقها الأساس، وإيجاد مرجعية جديدة تلبي مصالح موسكو.
نتيجة فشل الهجمات الجوية في إحداث فرق وإجراء تغيير مطلوب، ورغبة من روسيا في مزيد من الاستعراض العسكري، اندفعت لتطوير احتلالها لسورية، وتعزيز قواعدها البحرية والجوية بأنظمة دفاع جوي، قد تستدعي أو تستدرج قوات برية متنوعة لتوفير الحماية الأرضية لها.
كذلك اتجهت الى الفضاء السياسي الإقليمي والدولي في مبادرة لتحقيق الوجود الروسي على هذا الصعيد، مستهدفة الوصول إلى مرجعية بديلة وخريطة طريق للتسوية وفق رؤيتها. مثلما توجهت روسيا نحو الساحة السورية السياسية والعسكرية بجهود مشتتة ومنافقة لإجراء حوارات مع «الجيش السوري الحر» «إذا بقي منه أحد» (على حد تعبير الوزير لافروف) والمعارضة السياسية التي تريدها وتسميها «معتدلة» على حد تعبير الوزير لافروف، وكأنها تكتشف للمرة الأولى وجود المعارضة السورية، مع أنها على صلة بمختلف أطرافها منذ سنوات.
إن مسعى الروس لنقل مرجعية المفاوضات من جنيف إلى فيينا، ووضع الأمر الإقليمي في أيد تفتقر إلى الأهلية والقدرة، وادعاء البحث عن معارضة ضائعة من أجل إحياء دور سياسي بعد فشل الجهود العسكرية في إظهار العزم الروسي والفاعلية في إدارة شؤون المنطقة وفي القضية السورية بشكل خاص، كل ذلك سيذهب أدراج الرياح. لأن أفعال الغزو الروسي أعظم تأثيراً وأكثر فصاحة وإقناعاً من أقوال السياسة الروسية وادعاءاتها المنخورة. وقد تلقى السوريون رسائل الروس بشكل حقيقي وبوضوح كامل، واكتشفوا أن ليس لسورية ولطموحات السوريين مكان معتبر في الاستراتيجية الروسية للمنطقة، إن وجدت.
إن كل يوم يمضي من عمر الغزو الروسي لسورية، يحمل في طياته تأجيجاً وترسيخاً من جانب قوى الثورة لمقاومة العدوان. ويحمل تعميقاً للتباينات بل التناقضات القائمة بين المشروعين الروسي والإيراني على الأرض السورية وفي أرجاء المنطقة. كما يزيد منسوب الفشل في سوية الأداء الروسي وإنجازاته دولياً، والذي تأمل منه روسيا في أن يظهرها كقوة عظمى، تشكل قطباً موازياً للغرب، تقرر عندما تريد، وتواجه قرارات الآخرين إذا شاءت.
وبعد أربعين يوماً من وقائع الهجوم الروسي المعاكس على المنطقة، عبثاً ينتظر الساسة الروس حملة الصحون، ليصطفوا أمام المطبخ الروسي بانتظار ما سيخرج من قدر، ليس فيه إلا طبخة حصى. ويبقى الصوت الأعلى في إدانة هذا الغزو وإعلان فشله هو أرقام الضحايا من المدنيين، وحجم التدمير والتهجير من القرى الآمنة الذي أنتجه، وعدد المشافي الميدانية التي استهدفتها طائرات السوخوي. كل ذلك يحكي بالصوت والصورة حكاية عدوان على شعب مصمم على نيل حريته، ويعاني ما يعاني من جرائم نظام، عمل الروس طويلاً على دعمه والتستر على جرائمه وتبريرها، وهم اليوم يكملون مهمته ويرتكبون مثيلات لها.
المصدر : الحياة