اعتدت أن أعالج مسألة الإرهاب انطلاقا من مسؤوليتنا عنه كمجتمع وثقافة ودين ضمنا بالطبع؛ ذلك أن ممارسة النقد تبدأ من الذات باعتبار أن ما يحصل لنا هو نتيجة أفعالنا أو عدمها، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات ومهما كانت مساهمة الخارج. وهذا لمواجهة عادتنا في إرجاع ما يحصل لنا من أحداث سيئة أو جيدة إلى الحظ أو المؤامرة.
من هذا المنظار غالبا ما أهملت الإشارة إلى دور الغرب ما يجعل البعض يغمز من قناة أمثالي ويتهمنا في أقل تقدير بممارسة جلد الذات إذا لم يتهمنا علنا بالعمالة للإمبريالية ولإسرائيل. لهذا سأخصص هذا المقال للتشديد على دور الغرب وسياساته في ظهور الإرهاب وتفاقمه عبر التغاضي عنه حينا وتشجيعه حينا واستخدامه لمصالحه في جميع الأحيان. لكن مع التشديد على أن استنتاجي هذا لا يهدف إلى التخفيف من مسؤوليتنا الوطنية ولا يلغي أن مفتاح الحل هو في أيدينا عندما نعرف الطريق إلى امتلاكه.
من المتفق عليه أن الإرهاب في صيغته المعاصرة بدأ مع القاعدة من أفغانستان إثر التدخل السوفييتي العسكري للقضاء على طالبان. هذه “الحركة الإسلامية” التي تشكلت من تيارين إسلاميين موجودين منذ بدايات القرن العشرين (الوهابية وأفكار قطب والبنا أي الإخوان) حظيت بتشجيع من أميركا وحلفائها العرب لمواجهة الإلحاد السوفييتي؛ ولقد تزامن ذلك مع قيام الثورة الإيرانية.
منذ البداية إذن، قدمت مجتمعاتنا الأرضية الخصبة أو الركيزة العقدية التي عرف الغرب بجناحيه كيف يستغلها. هذا دون أن نغفل دور الغرب الاستعماري سابقا والإمبريالي لاحقا في القيام بكل ما يسمح له بالهيمنة على المنطقة ومواردها. من تفكيك السلطنة العثمانية لتقاسم مناطقها واستعمارها وزرع الدولة الإسرائيلية المحتلة وصولا إلى دعم الدول الوطنية الناشئة وغض الطرف عن ممارساتها الاستبدادية طالما أمنت مصالحه. فالديمقراطية وحقوق الفرد وحرية التعبير والحريات السياسية والحق في النمو والرفاه تتوقف عند أعتاب حدود الدول الغربية.
هذا بالإضافة إلى تقديم التسهيلات للحركات الإسلامية السلفية والأصولية وقياداتها في الغرب وحماية نشاط أعضائها من الخميني وصولا إلى أحمد عطا معدّ تفجيرات البرجين في 11 سبتمبر2001 إلى دعم رموز حركة الإخوان المسلمين والسلسلة مستمرة تحت شعار حقوق الإنسان التي لا تطال حماية المعارضة العلمانية أو الديمقراطية لأنظمة الاستبداد في عقر دار الديمقراطيات؛ ما سمح لأنظمة الاستبداد هذه باستخدام القوانين الغربية (لندن خاصة) ومنظومة الإعلام الغربي التي تتسم بالشفافية لملاحقة المعارضين الذين يتجرؤون على فضح استبداد وفساد وإجرام أنظمة الحكم الفاشية. ولتُسأل المعارضات السورية والعراقية والليبية والإيرانية عن ذلك. وجميعنا ما زلنا نذكر عرض وزيرة خارجية فرنسا، التي اضطرت للاستقالة، لمساعدة نظام بن علي على قمع الثورة التونسية في نهاية 2010.
لكن دور الغرب لا يتوقف عند ذلك، فتحت ذريعة محاربة الإرهاب القاعدي الذي اتهم به صدام حسين تم غزو العراق وتفكيك جيشه والعمل على تطييفه بمساعدة إيران كي يسلم إليها لقمة سائغة؛ فجميعنا يذكر أن الشعب العراقي انتخب إياد علاوي ولكن الاحتلال الأميركي بالتعاون مع إيران فرضا المالكي لفترتين متتاليتين فعمل على اضطهاد السنة برعاية إيرانية ما أجج الصراع المذهبي وذهب بالعراق نحو التفتت. وهذا ما أوجد القاعدة حقيقة وابنها داعش. وتحت شعار “الانسحاب وعدم التورط العسكري” تفرج الرئيس الأميركي على القمع الدموي للثورة السورية السلمية وحرب الإبادة على الشعب السوري بمساعدة إيران وغض الطرف عن ممارساتها في اعتماد أسلوبها الذي أجهضت به الثورة الخضراء في 2009. ما عسكر الثورة وحولها إلى أرض خصبة للإرهاب.
فلم يولد داعش سوى في أغسطس 2014 الذي تم تسليحه وتمويله من بقايا جيش المالكي ومن مصارف الموصل والنفط وتجارته التي يشترك فيها الجميع… وتم تحويله إلى غول يتطلب القضاء عليه “أكثر من 10 سنوات” كما أعلن الرئيس أوباما منذ البداية!
ترك الشعب السوري تحت رحمة النظام والميليشيات الأجنبية لمصيره وضربت بعرض الحائط مسألة حرية الشعوب وكرامتها وحقها في تقرير مصيرها. لقد انتخب الشعب السوري الأسد “رئيسا شرعيا إلى الأبد”! المضحك المبكي أن إيران وروسيا وتحت شعار “الشعب السوري فقط هو من يقرر مصيره” وتصريحات ظريف في الغارديان عن إعجاز مبادئه في “احترام الإرادة الحرة للشعب السوري وحقه في تقرير مصيره وإدارة شؤونه؛ معارضة التدخل الخارجي الذي يسعى إلى فرض رغبات أطراف خارجة على شعب حر!”، نجد أنهما تفاوضان باسمه وتقرران عنه من مِنَ السوريين يمثله. أما الباقون، فـ”إرهابيون”! وهذا يجري تحت أنظار، إذا لم نقل، برعاية أقوى دولة في العالم وحامية الديمقراطية.
هل من المستغرب أن تشعر الشعوب العربية بالذل والقهر وبالكرامة المهدورة من الداخل والخارج؟ وهل توالد أجيال من “الإرهابيين” الراغبين في الانتقام عجيبة؟
كل ذلك يشكل الإنزيم المساعد والغطاء الأمثل لتمرير مشاريع الاستغلال والتقسيم والتفتت التي تصيب الدول العربية بمساهمة متفاوتة من دوله العظمى من خلال وصفة تأجيج الصراع المذهبي السحرية.
هذا الصراع الكنز الذي سبق أن أشارت إليه صحيفة لوموند منذ أواخر مارس 2006، بعد أن أرسلت موفدا إلى بغداد لدراسة جوانب الوضع العراقي، خاصة جانب احتمالات الحرب الأهلية فخلص الوفد إلى ما يلي: “اكتشفت أميركا في العراق (وبالتالي في باقي الشرق الأوسط الإسلامي) سلاحا أخطر من أسلحة الدمار الشامل: الحرب المذهبية داخل الإسلام، بين السنّة والشيعة”.
لن أتوسع في جميع المجالات لهذه السياسات الأمنية والاستخباراتية، سبق أن تمت الإشارة إلى خلاصة مفادها أن داعش جهاز مخابرات لديه دولة، وليس دولة لديها مخابرات. وذلك على غرار ما كان يقال من أن إسرائيل جيش لديه دولة، وليست دولة لديها جيش.
لقد استطاعت مدينة كردية صغيرة التغلب على فزاعة داعش ودحرها. بينما تعجز التحالفات الدولية والإقليمية وأسلحة دمارها الشامل عن التغلب عليها منذ ما يقرب السنتين. هذا دون أن ننسى الإشارة إلى أن قيادات داعش هي خريجة أقبية السجون العراقية التي كانت تحت رعاية أميركية أو أخرجت من سجون الأسد أو مرّت بإيران أو بالغرب (انظر تصريحات عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس النواب الإيراني، محمد رضا محسني ثاني مؤخرا).
وما الغاية من هذه السياسات؟ فتش عن الاقتصاد.
فلننظر إلى ما حققه الاتفاق النووي، الذي ساعدت سياسات الرئيس الأميركي بمساعدة إيران على تمرير الوقت لتطوير برنامجها، في الوقت الذي تركت الأوضاع تتدهور من ليبيا إلى اليمن إلى سوريا. تحت غطاء انسحاب أميركا وسلمية رئيسها.
النتيجة لكل ذلك: فتح أسواق إيران الخام أمام الغرب المتهافت على هذه السوق، وبدل العمل على حماية الدول العربية الحليفة له والذي يعقد معها اتفاقات عسكرية وأمنية (على غرار ما يفعل مع إسرائيل) يبتزها لتصرف ملياراتها على شراء السلاح، الأقل فعالية مما يقدم مجانا لإسرائيل، للدفاع عن أمنها. ومع انخفاض أسعار البترول يصبح مصير هذه البلدان تحت التهديد، إذا لم نقل الإفلاس فعلى الأقل، الصعوبات المالية؛ ما ينعكس سلبا على النمو ويزيد في مآزقها وتدهور أوضاع شعوبها.
تدمير سوريا والعراق سوف يؤدي إلى استنزاف مقدرات هاتين الدولتين لسنوات طويلة قادمة وسوف تحتاجان إلى الغرب لإعادة إعمارهما.
هذا الصراع يستنزف إيران والدول العربية ولا يستفيد منه سوى إسرائيل والغرب الإمبريالي الذي تتجه نحوه الأبصار للمساعدة على حل هذا الصراع؟ فتأملوا!
المصدر : العرب