بعد مرور قُرابة شهر على اجتماع الرياض لقوى المعارضة السورية، لم تنجح كل الضغوط الروسية لضمّ حزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي/ السوري للمؤتلفين/ المفاوضين المُستقبليين من المعارضين، ولم تنجح كذلك كل القوى السياسية الإقليمية والدولية الداعمة لـ «وحدات حماية الشعب» الكُردية في ضمّها الى التشكيل السياسي نفسه المُخول مناقشة النظام السوري ومفاوضته على مُستقبل سورية.
حدث ذلك فيما تمت دعوة الفصائل المسلّحة المعارضة في شكل مباشر للمرة الأولى في تاريخ مؤتمرات المعارضة، واستثناء قوى الاتحاد الديموقراطي العسكرية، وفي حضور القوى السياسية «الحليفة» للاتحاد، كهيئة التنسيق وتيار بناء الدولة وتيار قمح، وحصر شرعية طرح المطالب الكُردية بالأحزاب الكُردية المنضوية في الائتلاف الوطني المعارض، والشخصيات الوطنية الكُردية السورية.
صحيح أن الاتحاد يعيش أكثر لحظاته «العسكرية» نشوة، إن عبر علاقته التي تتعمق مع الولايات المُتحدة والدول الأوروبية، وإن بالشقاق الروسي – التُركي المتعاظم، وطبعاً بالحاجة المتزايدة الى النظام السوري لإرضائه، بعد سيطرته على المزيد من المناطق في الشمال السوري.
لكن ذلك كله لم يعن أي شيء في المحصلة. فالنظام السوري ما زال يرفض أي اعتراف ولو إعلامي بالإدارة الذاتية المؤسسة من جانب الاتحاد، وأصرّ رأس النظام في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية، على أن المنتمين الى هذه المنظومة مجرد مواطنين سوريين، يتلقون دعماً عسكرياً من نظامه للتصدّي لـ «داعش»، مماثلاً بينهم وبين «عُصب» مقاتلة أخرى رديفة له، كميليشيا الدفاع الوطني، وحاصراً شكل التعاون بين نظامه وهذا الطرف بالتعاون الأمني غير المُعلن.
كذلك ففي ظل هذه الأحوال الإقليمية، لم يتلقّ العمال الكُردستاني أي اعتراف أو تغيير في تموضعه السياسي ممن دخلت علاقتهم في وضع حرج مع تُركيا. فالولايات المتحدة صرحت غير مرة بأنها تتفهم هجمات الطيران التركي على قواعد الكُردستاني خارج الحدود التُركية، ولم تُخرج أي دولة أوروبية الكُردستاني من قائمة التنظيمات الإرهابية، ولم يزد الاستعمال الإيراني – العراقي للعمال الكُردستاني إلا ورقة ضغط موضعية مضادة لنفوذ الرئيس مسعود البرزاني في المناطق المُسيطر عليها حديثاً في إقليم شنكال المحلي بكُردستان العراق. أما روسيا فأرادتهم فقط أن يكونوا مجرد أداة مناهضة للقوى العسكرية السورية المعارضة والقريبة من تُركيا في شمال شرقي البلاد، في مُحيط إقليم عفرين والمنطقة الفاصلة بينه وبين محافظة إدلب، وذلك كجزء من المناطحة التُركية – الروسية على حساب الغير.
هذا «الخلل» بين نمطي تعامل الدول الإقليمية والقوى الكُبرى مع العُمال الكُردستاني وقواه الرديفة، يجسّده الفارق بين زخم التواصل الأمني والعسكري معه وحرمانه من أية عوائد سياسية مُتممة لذلك. ويحدث هذا لأن الكردستاني ما زال يستعمل استراتيجية سياسية تقليدية غير عملية في العلاقات الإقليمية، تعتمد على ثلاثة أسس:
تذهب قراءته الأولى الى الاعتقاد أن كل جهد وحضور عسكري على الأرض سيتلوهما بالضرورة اعتراف وتعامل سياسي، بالاستناد إلى ذاكرة سياسية تتعلق بالقضية الفلسطينية والجنوب أفريقية.
يبدو ذلك غرقاً في الرومانسية، ليس فقط لأن المساحة التي سُمح للكردستاني بشغلها عسكرياً في شمال سورية أو غرب إقليم كردستان بالغة الصغر وناتجة من أوضاع إقليمية استثنائية تماماً، يعترف الجميع بضرورة تجاوزها، بمن في ذلك الخصوم السياسيون الإقليميون والدوليون المتنابذون، بل بالتحديد لأن نمط الصراع الراهن لم يتجاوز في أي شكل حدود الكيانات السياسية وهويتها في المنطقة، فيما القوى الدولية هي الأكثر حرصاً للحفاظ على خطوط هذه الدول وهوياتها وشرعياتها. هو ما بلغ درجة لا تزال معها هذه القوى ترى نظام بشار الأسد نظاماً شرعياً، على رغم كُل جرائمه، ولا تسمح في أي شكل بتجاوز شرعيات هذه الكيانات. ومنح الكردستاني بعض المسافة السياسية والعسكرية يعني تجاوز تلك الشرعيات تماماً.
على مستوى آخر، فالكردستاني يراهن على قُدرته على احتكار شرعية التمثيل السياسي للأكراد في المنطقة، أو على الأقل احتكار تمثيلهم في كُل من تُركيا وسورية.
ومع المزيد من التفكك المُجتمعي في بُلدان المنطقة، وعودة الأمور إلى نصابها الأولي الذي كان قبل مئة عام، أي أثناء الحرب العالمية الأولى، وتفاعل القوى السياسية على أساس تمثيلها الجماعات الأهلية لا على أساس نزعاتها وحواملها السياسية، اعتقد الكردستاني بقدرته على تمثيل الجماعات الكُردية، وأن الدول الإقليمية في لحظة تناقضاتها ستقبل له هذا الدور. وبنية ذلك التفكير تقوم على تجاوز كل الأبعاد الموضوعية للمجتمع الكُردي، بتفاصيل مصالحه ومكوناته الداخلية وتطلعاته المتباينة وشبكة تفاعله المُعقدة مع المحيط، ما يتجاوز اختصار التمثيل بتيار سياسي وحيد. وقد كان لفرضه على هذا النحو من الحزب السوري الرديف للعمال الكُردستاني، أن أدى إلى هجرة عشرات الآلاف من الأكراد السوريين، وخلو بيئات اجتماعية واسعة منهم تماماً.
أخيراً، فالكردستاني يسعى الى الجمع الخطير بين شكلي كسب الشرعية السياسية: من جهة يعرض نفسه قوة ذات مجهود عسكري ضخم، تسعى الى إخضاع الخصوم ونيل الشرعية الموضوعية عبر «الانتصارات» العسكرية، مطابقاً نفسه مع الأنظمة السياسية التي يدعي مقارعتها، ومن جهة يسعى الى الظهور كقوة سياسية وأيديولوجية حداثوية، مغايرة لتيار الإسلام السياسي كما لقوى القومية الكُردية التقليدية.
وهذا كلّه متناقض بما فيه الكفاية.
المصدر : الحياة