يفتح الهجوم الانتحاري الذي قتل وجرح العشرات في مركز لتدريب الشرطة في زليتن بغرب ليبيا الباب لنقاش موضوع الظهور المفاجئ لما يسمى «الدولة الإسلامية» في كل من ليبيا واليمن، وهو أمر يحتاج إلى بعض التمعّن لما يحيط به من حيثيّات غريبة.
ففي اليمن، بداية، تمحور الصراع السياسي والعسكري حول طرفين رئيسيين، شكّل تحالف قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح مع «أنصار الله» الحوثيين، جانبه الأول، فيما شكّلت قوّات المقاومة الشعبية لذلك النظام، وما انضاف إليها من قوات عسكرية انضمّت لحكومة هادي عبد ربه منصور الشرعية، الجانب الثاني، وبين هذين الجانبين كان تنظيم «القاعدة» هو الطرف الممثّل لـ»الجهادية السنّية» المتطرّفة، والذي لم يقبل الانضواء تحت لواء خلافة أبي بكر البغدادي وتنظيمه المسمّى «الدولة الإسلامية».
بدأت عمليات تنظيم «الدولة الإسلامية» في اليمن من دون إنذار مسبق وتركّزت على قوّات الجيش الشرعيّ، من جهة، وعلى بعض مساجد الحوثيين، من جهة أخرى، وهو ما جعل الكثير من المحللين يعتبرون التنظيم أداة استخباراتية لنظام صالح الآفل مخططها الحقيقي هو طعن خصومه في الظهر، والتأجيج المستمر للمشاعر الطائفية.
في الحالة الليبية مزيد من البراهين الفاضحة على اشتغال حثيث من فلول نظام القذافي ومؤيديه الإقليميين على «صناعة» فرع لـ«الدولة الإسلامية» في ليبيا ضمن السيرورة المنطقية التالية: 1 ـ استثمار القدرات العسكرية لحاضنة القذافي الشعبية في سرت؛ و2 ـ دمجها مع جماعات السلفية المتطرّفة القابلة للتجنيد في مناطق أخرى مثل مدينة درنة؛ و3- توجيهها لضرب سلطة طرابلس وفصائلها العسكرية وإشاعة الفوضى في مناطقها بالدرجة الأساسية كونها تمثّل الجهة المقاومة للانخراط في التبعية الإقليمية؛ و4- تأجيج النزاعات الطائفية من خلال إعدام أقباط مصريين؛ و5- استدعاء التدخّل الخارجي.
أظهرت «الصناعة» اليمنية لـ«الدولة الإسلامية»، حرفيّة في اختراع شيء من عدم، وهو ما ظهر عبر توجيه التنظيم المفترض هذا ضربات كبيرة للقوات الشرعية اليمنية ومركزها الحكومي في عدن وحلفائها الإقليميين، إضافة إلى «لزوم ما يلزم» من تفجير مقصود لمساجد الطائفة الزيدية لإضفاء قناع طائفيّ ودينيّ على جوهر سياسي وعسكري يتقصد خصوم صالح والحوثيين.
أما في الحالة الليبية فقد تفلّتت بعض التصريحات، من بعض أتباع نظام القذافي السابق، لتدلّ على ارتباطهم بظهور التنظيم الجديد، كما فعل أحمد قذاف الدم في مديحه لعناصر هذا التنظيم، والذين ينتمي أغلبهم لعشيرته من القذاذفة ولمسقط رأس القذافي في سرت.
الحق يقال إن كل الأطراف العالمية والإقليمية والمحلية ساهمت واستثمرت في صناعة تنظيم «الدولة الإسلامية»، كل منها لأهدافه الخاصة، بما فيها أكثرها إظهاراً للعداء لهذا التنظيم، مثل إيران والنظام السوري وأمريكا وروسيا، لكنّ هذا لا ينكر أن لهذا التنظيم سرديّاته الخاصة به المعادية للجميع، وترتيباته التي تحاول التفلّت من الطرق المرسومة له، وهو ما شبهه البعض بقصة الدكتور فرانكشتاين الذي «اخترع» مسخاً فقام، في النهاية، بالتهامه.
لقد استخدم البريطانيون والأمريكيون والروس وكثيرون غيرهم الرأسمال الرمزيّ الموجود في الإسلام وفي عقيدة الجهاد في أطوار عديدة من التاريخ، كما فعل ذلك حكام عرب عديدون، مثل أنور السادات الذي ساعد التيارات الدينية لمقاومة الناصريين واليساريين فقام أحد أفراد تلك التيارات باغتياله.
غير أن ما حصل منذ التدخلات المباشرة الروسية والأمريكية في أفغانستان والعراق وسوريا فاق في نتائجه الكارثية كل تصوّر، وانجدل استخدام الحكومات الاستبدادية الانتهازي للتنظيمات الجهادية المتطرفة، والألعاب الاستخبارية، مع فظائع الحصار والتجويع والقصف وضرب المكوّنات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذه المجتمعات، لخلق صناعة جديدة غير مسبوقة اسمها «الدولة الإسلامية»، يتلاعب بها الجميع، ويحترق بها الكلّ، ولكنّها، رغم كل ذلك، لا تخرج عن المسار الأصليّ الذي رسم لها: تبرير حفظ كراسي المستبدين واستمرار دورة التبعية للأجنبيّ.
المصدر : القدس العربي