مقالات

فاطمة ياسين – تشتت وجوع وتجويع

يحلو للعالم أن يرى السوريين على هيئة ملل ونحل وطوائف وفئات متمايزة، تتلاقى مصالحُ بعضهم، فيتحزبون ضمن مجموعة في مواجهة مجموعات أخرى. وأصبحت الدول الداعمة تقدم هباتها الهزيلة للسوريين على أساسين: خلفية السوري الدينية أو العرقية، وموقفه من نظام الأسد. 

ولكل امتيازاته؛ فللعلوي المعارض من يدعمه، والسني المؤيد هناك دول تفاخر بوجوده، وتدفعه ليترأس الطوابير في المقابلات التلفزيونية، ذات الانتشار الواسع، أو في أثناء عقد المؤتمرات الخاصة التي تأخذ على عاتقها حل المعضلة السورية. أما الكرد فقد اتفقت غالبية الدول والقوى على إعطائهم توصيفاً خاصاً، يفصلهم عن باقي مكونات الشعب السوري، باعتبارهم كتلة خاصة، لا يوجد لديها مرجع ديني معترف به، أو حزب سياسي جامع يتحلقون خلفه.

تحركت الكتل والتيارات والمجالس والهيئات التي شكلها السوريون على إيقاعات الدول الداعمة، وبدأ الإعلام الخاص لكل منها يردد كلام مرجعياتها عن الحل السلمي، أو المؤتمرات المقبلة، ونامت في حضن التسريبات الخبرية التافهة، متناسيةً، إلى حد بعيد، الوضعَ الداخلي المهشم، ما أعطى النظامَ والقوى المتحالفة معه الوقتَ الكافي، والمدى المطلوب لإحكام الطوق حول قرية صغيرة، معلقة على قمة جبلية، تدعى مضايا، حتى فَتَكَ الجوع بأهلها، وأصبحت عظامهم الناتئة التي سببها سوء التغذية جداريات يزهو بها “فيسبوك”، بينما تسخر “موائد اللئام” من صياحات التضوّر التي تطلقها القرية، وتعرض نفسها بكامل فجورها على وسائل التواصل الاجتماعي نفسها في سقوط أخلاقي مريع، يكشف عن عمق الهوة التي تفصل مكونات بات المجتمع السوري يتشكل منها.

حاولت بعض التجمعات ذات الطبيعة الثقافية، في اجتماعات ونشرات وبيانات خاصة، التنبيه إلى خطورة الشروخ التي أصابت البنية السورية، وأحالتها إلى مستنقعات صغيرة منفصلة، وكل منها يمتلك رؤيته الخاصة التي لا تقبل المساومة أو النقاش، وهي مستعدة “للمناطحة” دفاعاً عما تؤمن به، وفي واقع الأمر يكون مجرد صدى لفكرة أو اجتهاد إقليمي.

ذهبت الجهود أدراج الرياح، وتناثرت سدى، كالغبار الذي يغطي شوارع الوطن، من أقصاه إلى أقصاه، ومضت المجموعات السورية التي يتربص بعضها ببعض، بعيداً في غيها الإعلامي، ففرضت إنتاجها السيئ على الشاشات والصحف وصفحات الميديا الاجتماعية، في تعزيز للولاء الزبائني الذي وصل إلى درك الاستجداء والتسول المباشر من أي جهة كانت.

يستفيد النظام الذي يزداد تراصاً واكتنازاً بفضل دعم مضبوط ومنتظم، من حالات الانقسام والتفكك التي وصلت إلى حد الانحلال في جسد المعارضات الكثيرة، فبدأ بتسجيل النقاط، بغض النظر عن الطريقة، مستنداً إلى ضعف الخصم وهزاله، وتبدد جهوده في مواجهات داخلية.. وتشكل مضايا التي ما زالت ترزح تحت غائلة الجوع والحصار، نموذجاً لمن يريد أن يقرأ بواقعية، فهذه القرية التي يحيط بها جنودُ حزب الله من جميع الجهات، تحت ما يشبه غيمةً تشكلها المقاتلات الروسية، ضحية لوضع متأزم تعيشه الجهات التي تواجه النظام، والتي سمحت وضعيتها المهلهلة للأسد، ومن يقف معه، ويدعمه، بالتمدد إلى أماكن كان يحلم بالوصول إليها، فها هو يضع قدمه في محيط مضايا، ملوحاً برغيف الخبز على مرأى ومسمع من البشرية كلها، من دون أن تطرف عين لأحد.

هذا هو واقع مضايا الجائعة التي تختصر الحالة السورية العامة، ونحن نغلق مصراع العام الخامس لثورةٍ بدأت بيافعين ملأوا الشوارع تمرداً، حتى أسقطوا جبروت الطاغية، بينما نراقب، بأمل خائب، مضايا، وقد لفتها الثلوج تضغط على أمعاء أهلها الخاوية، وعشرات المنابر الإعلامية “الثورية” تطلق الصراخ “رشاً ودراكاً”، ولا تصيب إلا أذن مستمع ملَّ من ترديد العبارات الجافة المفرغة من الداخل، وأصبح يرغب بنوعٍ مختلف من التعامل، لا يعتمد مكبر الصوت سلاحاً وحيداً يقود إلى النصر. 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى