يبدو أن هناك من نسي أو تناسى ويريدنا أن ننسى أسباب انطلاق الثورية السورية والربيع العربي من أساسه. هناك من يريدنا أن نتّبع مصنع أكاذيبه ودعاياته، ولهذا لا بد من التذكير ببعض الحقائق الأساسية.
الشعب السوري لم يثر لمحاربة الجيش العربي السوري أولا وقبل كل شيء، وقد انضم كثيرون من أبناء الجيش الذين استطاعوا الفرار إلى جانب شعبهم، إلا أن هذا كان محدودا على مستوى الرتب العالية التي يختص بها الحزبيون البعثيون المتشددون، ومعروف أن الحزب فسد منذ سنين طويلة من داخله، وباتت القوى المهيمنة وصاحبة القرار فيه، مجموعات من الردّاحين، من فئة (الله ـ سوريا- بشار) وبس.. ذات خلفيات وشلل مذهبية وطائفية وانتهازية ذات مصالح كبيرة ارتبطت بالنظام! الشعب السوري لم ينتفض كي يحارب روسيا الدولة المصنفة كثاني أو ثالث قوة عسكرية في العالم، وليس مفاجأة أن التدخل الروسي أحدث خللا كبيرا في موازين القوى على الأرض! فالجميع وحتى الطفل توقع حدوث هذا الخلل، ولكن المهم أن هذا التدخل حدث بعد انهيار النظام عسكريا، وليس أخلاقيا ومعنويا فقط، وبدعوة وعلى شيك مفتوح من النظام المنهار.
الثورة السورية لم تقم لأجل محاربة إيران وذنبها «حزب الله»! إيران دولة إقليمية يبلغ عدد سكانها ثمانين مليون نسمة، ولديها موارد كبيرة، وجيوش وفيالق، رمت بكامل ثقلها إلى جانب النظام لضمان امتداد فارسي مذهبي من إيران إلى سوريا ولبنان مرورا بسوريا. نذكّر أن الشعب السوري كان في بداية ثورته يرقص ويغني في الشوارع والميادين رغم القمع، كان يغني للوحدة بين الطوائف والمذاهب والسلم الأهلي والمحبة، فاتسعت مظاهراته يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع حتى وصلت إلى مليونيات، رغم القمع ونظام طوارئ عمره عدة عقود سعى لتدجين الشعب وتقليم أظافر المعارضين ومسحهم تماما، وهذا ما جعل النظام يسارع إلى استخدام ما أطلق عليه الحل الأمني، وهو القتل ثم القتل.
الشعب السوري لم ينتفض ضد الاستبداد ليستبدله بهمجية «داعش» واستبداده، ولم ينتفض كي يحظى بنظام ذي فكر وهابي سعودي أو تابع له ولا بنظام الفقيه الإيراني.
من ناحية اصطفت إيران إلى جانب النظام للأسباب المذكورة، وهو حلف منذ أيام حرب العراق وإيران، حيث اصطف نظام الأسد الأب إلى جانب إيران الخمينية ضد العراق البعثي، ومن ناحية أخرى أدركت السعودية أن الربيع العربي إذا انتصر في سوريا على الطريقة المصرية والتونسية السلمية فهو سيمتد أكثر، ويجب وقفه بأي ثمن كان، وإذا كان لا بد من إسقاط النظام الذي بدا منهارا في بداية الثورة، فعلى الذين سيسقطونه أن يكونوا موالين لفكرها ونفوذها!
وكان التدخل الإيراني المذهبي الفاشي غطاء لتدخل باسم حماية السنة وبداية حرف المسار الأساسي لثورة الشعب السوري. إسرائيل رأت بنظام الأسد عنوانا للمسؤولية عن أي حركة على حدود وقف إطلاق النار. فهو يقوم بمهمته بصورة ممتازة، تماما كما هو الوضع على الحدود المصرية والأردنية، والفرق أن هناك اتفاقا رسميا مع الأردن ومصر، وهنا يوجد اتفاق ضمني، فكل من يقترب من حدود وقف إطلاق النار من رفح المصرية على طول النقب وسيناء مرورا بالعقبة الأردنية، ثم شمالا حتى جبل الشيخ مصيره القتل أو السجن. لهذه الأسباب كان اختلاق «داعش» أيضا بتواطؤ قوى عالمية معادية في جوهرها للثورة السورية، كانت مهمة «داعش» الأساسية ذبح الربيع العربي، لا أتحدث عن كوادر «داعش» التي تظن بأنها تعيد سيرة الفتوحات الإسلامية، ولكن الأصابع التي تحرّك منظريها وأصحاب القرار فيها أصابع معادية للعرب وللمسلمين عداء أشد سوادا من القار!
كان واضحا أن انتصار الثورة في سوريا سيغير وجه المنطقة جذريا، ولهذا سارعت قوى دولية وإقليمية على مختلف مشاربها لذبح الربيع العربي ووقف مده، من خلال اختلاق «داعش»، لأن «داعش» مهما نما وتمدد، لا أفق له، فمرجعيته الفكرية ضيقة غير مقنعة، بل وتجند العداء ضده يوما بعد يوم، وكل العالم مستعد للتحالف ضده للتخلص منه، حتى أكثر من التحالفات ضد «القاعدة». تخيل النظام أن عسكرة الثورة ستحسم الأمر لصالحه بسرعة، فكانت الكارثة، إذ كان الرد على عنف النظام بالعنف والاستقطاب الذي ازداد يوما بعد يوم، حتى ضعفت القوى المعتدلة وباتت الأمور إما أسود أو أبيض، ومن ليس معنا فهو عدونا، من لا يبايع «داعش» يُقتل، ومن لا يبايع النظام يُقتل، وكان على القوى المعتدلة التي تُركت وحيدة وبدون تسلح جيد، أن تحارب النظام المستبد من جهة، والدفاع عن نفسها أمام دموية «داعش» من جهة أخرى.
«داعش» لم يمثل مطلب الشعب السوري ولا أي شعب من الشعوب العربية، ولهذا ما يثير القرف هو اعتبار الانتصارات على داعش وكأنها انتصارات على الثورة السورية نفسها. لم ينتفض شعب سوريا لأجل تحويل بلده إلى بلد محتل من هذا الخليط الدولي المتقاطع المصالح، لا الروسي ولا الأمريكي ولا الإيراني ولا السعودي ولا التركي ولا الأوروبي ولا «الجهادي» ولا غيره!
«داعش» صنيعة مخابرات دولية وسوف تقضي عليه المخابرات نفسها التي صنعته، وهي تحاول تصديره الآن إلى ليبيا كي تحرم الشعب الليبي من إنجازه بالتحرر من حكم القذافي، وكي تخلط الأوراق في ليبيا! فمن هي القوى التي تسلح «داعش» بهذه الكميات من وسائل القتال! بلا شك أنها دول وليس عصابات تتاجر بالسلاح! أهم إنجازات النظام السوري والروسي والإيراني والحزب التي قدمها لهم «داعش»، فقد أنجز مهمته في حرف الثورة السورية عن اعتدالها وسلميتها على أكمل وجه، الآن حان وقت التخلص منه في سوريا. هذا بالطبع لا يلغي الحقيقة بأن النظام سقط إلى الدرك الأسفل مما يسمى مزبلة التاريخ، علما بأن في المزابل ما يمكن إعادة تدويره والاستفادة منه!
أما التدخل السعودي- الأردني- التركي الذي يلوح به البعض فهو لن يخدم الشعب السوري، ولا شعوب هذه الدول نفسها، وهو ليس مطلوبا، وإذا أرادت بعض القوى أن تخدم قضية الشعب السوري بالفعل، فما عليها سوى تزويد المعارضة بمضادات متقدمة للطيران وللدروع، للبدء بحرب عصابات، ليس لضمان نصر عسكري على روسيا، وليس لتمديد أجل الحرب، لكن لأجل مفاوضات أكثر توازنا يكون فيها المفاوض الروسي باسم النظام أقل عنجهية مما هو عليه، ومستعدا لوقف القتال بشروط مقبولة على قوى المعارضة السورية.
المصدر : القدس العربي