وضع وزير الخارجية التركية مولود شاويش أوغلو، أخيراً، حداً للتكهنات بشأن توغل بري تركي محتمل في سوريا عبر بوابة أعزاز، حين قال إن الائتلاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لم يتخذ أي قرار بهذا الشأن.
وقد شاعت التكهنات بشأن عملية برية تركية ـ سعودية محتملة في شمال سوريا بعد تصريحات متزامنة من مسؤولي البلدين، بمن فيهم شاويش أوغلو نفسه، عن نيتهما التوغل بقوات برية لمحاربة داعش، إضافة إلى الأخبار التي تواترت عن وصول طائرات سعودية إلى قاعدة إنجرلك الجوية قرب مدينة أضنة. كل ذلك بعد مؤتمر الأمن في ميونيخ الذي خصص، بصورة رئيسية، للحرب على داعش.
اتضح أن الأمر كله يتعلق بمناقشات تمت في القمة المذكورة، بين الدول المنضوية في الائتلاف الدولي ضد داعش، حول موجبات إرسال قوات برية لمحاربة التنظيم المذكور، ولم يتفق المجتمعون على هذه الخطوة.
لا جديد، إذن، في مواقف الدول المعنية. الجديد هو ما يدور في الميدان، وبالتحديد على جبهات الريف الشمالي لمدينة حلب، حيث تقدمت قوات «وحدات حماية الشعب» و»جيش الثوار» المتحالفين في إطار ما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية»، بغطاء جوي روسي، لقضم المزيد من المواقع على حساب الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا. بحيث باتت تلك الفصائل بين فكي كماشة قوات النظام من الجنوب، وقوات «سوريا الديمقراطية» من الغرب والشمال، في حين تحتل داعش الأراضي الواقعة شرقاً من مدينة الباب وصولاً إلى حدود مارع.
بموازاة هذه الحروب الدائرة على الأرض، تدور حروب إعلامية ونفسية للسيطرة على معنى ما يحصل. ففي الوقت الذي لا يمكن فيه تبرير سيطرة وحدات حماية الشعب التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني على مناطق عربية بسكانها، كتل رفعت مثلاً، يبدو التهويل التركي من سيطرة وحدات الحماية على مدينة إعزاز ووصل كانتوني عفرين وكوباني بهدف إقامة كيان كردي متصل على حدود تركيا الجنوبية، وجهاً من وجوه الفوبيا الكردية الراسخة لدى الدولة التركية العميقة.
بعيداً عن هذه الحروب الإعلامية، ما الذي يمكن قراءته في مجريات المعارك المتسارعة شمال حلب وصولاً إلى الحدود التركية؟
تعمل روسيا والنظام على تطويق مدينة حلب من خلال السيطرة على الريف الشمالي وقطع خطوط الإمداد عن الفصائل المتمركزة في القسم المحرر من المدينة المنكوبة.الطيران الروسي لا يميز في ضرباته بين الأهداف المدنية والعسكرية، ويضرب المستشفيات والمدارس وفقاً لسياسة الأرض المحروقة على مثال غروزني عاصمة بلاد الشيشان. ما ينقص الخطة الروسية هو عدم كفاية قوات النظام لاستثمار الضربات الجوية في تحقيق تقدم على الأرض.
يتم تلافي هذا النقص جزئياً بالاعتماد على ميليشيات شيعية متعددة الجنسيات، هي غير كافية بدورها لتأمين سيطرة مستدامة على الريف الشمالي الواسع. هنا يأتي دور «قوات سوريا الديمقراطية» التي تشكل الوحدات الكردية عمودها الفقري. يمكن القول، إذن، إن تقدم هذه القوات من الشمال الغربي (عفرين) شرقاً باتجاه اعزاز وجنوباً وصولاً إلى نبل والزهراء الشيعيتين، يكمل الخطة الروسية لعزل تركيا عن الصراع السوري من خلال قطع إمدادات الفصائل المدعومة تركياً المتمركزة في مدينة حلب.
أما غياب المشروعية عن تقدم قوات «كردية» إلى مناطق «عربية» فمن المحتمل أن يعوضها «جيش الثوار» الذي يتشكل من مقاتلين عرب. في هذه النقطة تتقاطع الخطة الروسية الساعية إلى تقوية يد نظام دمشق الكيماوي على طاولة المفاوضات في جنيف، مع السياسة الأمريكية المتمحورة حول قتال داعش. تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما، البارحة، باستهتار شديد عن «مجموعة من المتمردين» لا يمكنها مقارعة جيش القوة العسكرية الثانية في العالم (روسيا)، وكأنه يكمل ما بدأه وزير خارجيته جون كيري حين هدد في لندن، قبل أسبوع، ناشطين سوريين معارضين بالقول: «سيتم القضاء على المعارضة المسلحة في غضون ثلاثة أشهر».
من المحتمل أن الإدارة الأمريكية تريد للروس أن يحققوا، لمصلحة النظام، سيطرة تامة على ريف حلب الشمالي وعزل بقايا الفصائل المعارضة في مدينة حلب عن أي دعم تركي، قبيل الخامس والعشرين من شباط، موعد استئناف مباحثات جنيف، لإعادة صالح مسلم إلى طاولة التفاوض وإضعاف موقع وفد المعارضة المنبثق عن مؤتمر الرياض. ربما تأمل إدارة أوباما من ذلك تعزيز فكرتها عن تشكيل «تحالف مشترك لمحاربة الإرهاب» يضم روسيا والنظام الكيماوي. وتكون ذراعه الضاربة على الأرض «قوات سوريا الديمقراطية» المرضي عنها أمريكياً وروسياً.
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد دعا واشنطن، قبل أيام، إلى الاختيار بين حليفتها الأطلسية تركيا ووحدات حماية الشعب التي يعتبرها إرهابية. وجاء الجواب على لسان الناطق باسم الخارجية الأمريكية الذي أكد علاقة بلاده الاستراتيجية مع تركيا من جهة، وعلى عدم اعتبار قوات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي إرهابياً من جهة ثانية.
وهكذا وجدت تركيا أردوغان نفسها معزولة في مواجهة تهديدات روسيا بـ»حرب عالمية ثالثة» على ما قال ميدفيديف، بلا أي سند من حليفتها واشنطن، وصدر بيان عن مجلس الأمن، بإجماع أعضائه، يدعو فيه تركيا إلى وقف ضرباتها المدفعية ضد قوات حماية الشعب في مطار منغ ومواقع أخرى. مع العلم أن بين الأعضاء الخمسة عشر لمجلس الأمن، في دورته الحالية، دول كالأردن وماليزيا اللتين يفترض أنهما حليفتان لأنقرة في إطار «التحالف الإسلامي ضد الإرهاب» الذي أعلنت السعودية عن تشكيله قبل شهرين.
الواقع أن حرب أنقرة «المدفعية» على قوات حماية الشعب هي استئناف لحربها الداخلية على حزب العمال الكردستاني، على الأراضي السورية. في حين أن دخول وحدات حماية الشعب في إطار الحرب الروسية على المعارضة السورية، من بوابة المشاركة في حصار حلب، ينذر بعواقب وخيمة على العلاقات العربية ـ الكردية، قبل أن يتم التئام جراح تل أبيض.
المصدر : القدس العربي