دارت على الأرض السورية، في الأسابيع الماضية، رحى معارك طاحنة، تعد الأشد كلفة بمقاييس الخسائر البشرية والمادية، منذ تحول الثورة السورية إلى الكفاح المسلح بدايّة عام 2012.
خارج الصورة البانورامية للقتال، والتي ترسم حدود النفوذ وموازين القوى، تبرز حالة إنهاك غير مسبوقة، تصيب غالبية أطراف الصراع، وتلقي بتداعياتها على تفكيرهم وقناعاتهم بفكرة الحسم العسكريّ، أو استمرارية الصراع إلى زمن غير معلوم. يظهر النظام السوري في أعلى قائمة المنهكين عسكريّاً، فعلى الرغم من أن جيشه لم يتعرّض لانشقاقاتٍ عموديةٍ، من شأنها أن تؤثر على تماسك هيكليته، فإن الانشقاق الفردي (على مستوى الأفراد، وصف الضباط)، وعزوف الشباب عن الالتحاق بالخدمة العسكريّة، أحدث خللاً كبيراً في أدائه العملياتي، ولم تجدِ المراسيم المتتالية بالعفو عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية في إقناع مؤيدي النظام بالاستجابة لنداءات الالتحاق والتطوع، فما بالك بالمعارضين أو الحياديين.
كما لم تنفع الحملات الأمنية، ورفع سن الاحتياط إلى سن 45 عاماً في سد هذه الفجوة، وتحولت المدن السورية الخاضعة لسيطرة النظام إلى ما يشبه حال مدن القارة الأوروبية العجوز، حيث يندر فيها الشباب، ويغلب عليها كبار السن والنساء، في حين شكلت مناطق سيطرة المعارضة ملجأ إجباريّاً للشباب صغير السن الذي لم تمكنه الظروف من ركوب البحر نحو الخلاص المبتغى غرب أوروبا.
وما زاد الطين بلةً الازدياد المضطرد في عدد قتلى الجيش والشبيحة، بشكلٍ أرعب عائلات المؤيدين، خصوصاً بعد أن عاينوا، بأم العين، مقاطع مهولة لأولادهم الذين تركوا، في أكثر من مرة، لمصيرهم المجهول، ورفض النظام مبادلتهم أو التفاوض على إطلاق سراحهم أو استعادة جثثهم، وذلك بخلاف الأسرى والقتلى الإيرانيين. ولعل لوحات “الشرف والمجد” على مداخل قرى الساحل السوريّ، والتي تضج بأسماء القتلى وصورهم، أكثر الأمثلة الشارحة عن حالة الإنهاك والاستنزاف التي يعانيها النظام، والتي دفعته، باضطراد، إلى الاعتماد على المليشيات الأجنبية، بحيث غدا جيشه قوة إسناد ثانويّة لا أكثر.
وكان من المضحك المبكي، على سبيل المثال، بث التلفزيون الرسمي مقاطع مصورة للقوات التي دخلت نبل والزهراء حيث بدا “الجنود السوريون” ذوو الملامح الأفغانية الواضحة عاجزين عن فهم هتافات ترحيب الأهالي بهم، أو التفاعل معها بصرياً. وإذا كان جيش النظام، بعدده وعتاده، قد تعرّض لاستنزافٍ كبيرٍ، فإن حزب الله هو الآخر عانى، أخيراً، مشكلاتٍ كبيرة، انعكست مباشرة على حضوره الميداني ومساهماته القتاليّة، فقد أحصى تقرير نشر في موقع “جنوب لبنان”، وتناقلته مراكز أبحاث غربية، جنائز حزب الله العائدة من سورية، حيث بلغت نحو 865 قتيلاً في الفترة بين سبتمبر/أيلول 2012 وفبراير/شباط 2016.
ومع أن هذه الإحصائية تمثل الحد الأدنى والمعلن عنه، فإن أرقامها كبيرةٌ، مقارنة بإجمالي عدد مقاتلي حزب الله في سوريّة، ومقارنة بخسائره في حروبه السابقة. أضف إلى ذلك، فإن عجز قوات النظام عن الاحتفاظ بالمناطق المستعادة يزيد من أعباء الحزب، ويرهقه مادياً وبشرياً، إذ إنه مجبر على الانتشار في مساحاتٍ تعادل ضعفي مساحة لبنان على أكبر تقدير، والتمركز في نقاطٍ ثابتةٍ، تجعله عرضة للهجمات الخاطفة، كما يحصل في القلمون، وقد تنبه النظام السوري إلى حالة الوهن المستفحلة عند مقاتلي الحزب، وسارع بإرسال ممثليه إلى بغداد، ليفاوض مليشيات الحشد الشعبي على زيادة عدد مقاتليها في سوريّة، خصوصاً بعد قرار رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، تسريح نحو 30% من مقاتلي الحشد، وقطع رواتبهم.
وليست إيران، التي اعترفت رسمياً بانتشار مقاتليها في سورية، بمنأى عن دفع ثمن باهظ ماديّاً وبشريّاً لتدخلها في سورية. وإذا ما تجاوزنا مليارات الدعم الاقتصادي والعسكري (التسليح)، فإن الحرب السورية تحصد يومياً رؤوس أعتى ضباط الحرس الثوري، في مشهد لم يتكرّر منذ الحرب العراقية الإيرانيّة. وما ينطبق على إيران يصح، بشكل جزئي، على روسيا، والتي بدأت على استحياء الاعتراف بخسائر بشرية محدودة تحت عناوين مختلفة (انتحار بسبب خلاف مع عشيقة، ذبحة قلبية،…)، وبدأت أصوات تعلو في داخلها عن كلفة الحرب الاقتصادية، في ظل انخفاض أسعار النفط والعقوبات الأوروبية وانخفاض سعر العملة المحلية (الروبل) أمام العملات الدولار. ويمكن، في هذا السياق، فهم التصريحات الروسية الأخيرة الموجهة إلى بشار الأسد، ومطالبته بالتزام نصائح روسيا وهجر أحاديث الحسم العسكري الخلبيّة، كونها ستسهم في استمرار الصراع فترة طويلة، وتزيد من أعبائه عليها.
على الطرف المقابل، لم تعانِ فصائل المعارضة سابقاً من استنزافٍ بشري حاد، بل على العكس، عانت نقصاً في السلاح الكافي لتغطية عدد الراغبين بحمله، كما أن خسائرها، على ما تشير إحصائيات المنظمات الحقوقية، لم تكن كثيرةً، مقارنة بالضحايا المدنيين الذين يشكلون نحو 80-85% من إجمالي عدد القتلى، لكن هذا الواقع تغير، أخيراً، بعد بدء الضربات الجوية الروسية، فتكتيك القصف السجادي (Carpet bombing) ضاعف خسائرها البشريّة بشكل غير مسبوق، إلى درجةٍ وصلت فيه خسارة أحد الفصائل العاملة في الشمال إلى نحو 40% من مقاتليه في الأشهر الستة الأخيرة. ومع أن الفصائل قادرة على تعويض النقص البشريّ، فإنها تفقد يومياً مقاتلين تمرسوا على القتال الصعب، وخبروا ساحاته المختلفة، بشكل يعجز المنتسبون الجدد على تعويض غيابهم، إضافة إلى الجانب النفسي المعنوي، وهو الأهم بالنسبة إليها.
إنهاك الأطراف المتحاربة من الصراع يعد أولى خطوات التسويّة. لكن، بشرط لازم وكافٍ، يتمثل في اقتناع جميع الأطراف بذلك، وهو ما لم يتحقق بعد. لذلك، تحتاج فصائل المعارضة لمواجهة الخلل بموازين القوى إلى العودة إلى خيار حرب العصابات في التفوق الجوي لروسيا، وعجزها عن تثبيت (وتأمين) خطوط دفاعها في الجبهات، لتلافي الخسائر البشرية الكبيرة، وإنهاك قوات النظام والمليشيات المرتبطة بها، من جهة، وإفراغ القصف الروسي من مضمونه، من جهة أخرى.
المصدر : العربي الجديد