لا بد من قولها منذ البداية، تتعارض مقولة “فيدرالية شمال سورية” مع أدبيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وطروحاته، المنقولة حرفياً عن أسس حزب العمال الكردستاني ومبادئه، وأفكار قيادات شمال العراق الذين يتطلعون استراتيجياً إلى كونفدرالية كردستان المؤقتة في بلدان الكثافة السكانية الكردية، لتكون مقدمةً نحو الوحدة والاندماج بين الكيانات باتجاه الإعلان عن كردستان الكبرى.
أواخر يناير/ كانون الثاني 2014، جاء قرار الإدارة الذاتية في شمال سورية. ثم أعقبه، في منتصف مارس/ آذار 2016، قرار الفيدرالية الكردية في منطقة جغرافية أوسع هذه المرة، تشمل الشمال وقطعة من مدينة حلب.
خلال عامين، ينجح رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، في فرض حالة جيوسياسية كردية غير دستورية، أو تفاهمية مع بقية شرائح المجتمع السوري في الحكم والمعارضة، لكنه يفعل ذلك بالتنسيق مع واشنطن وموسكو، ليصبح قيادياً كردياً منافساً لمسعود البرزاني وعبد الله أوجلان على فتح الطريق أمام ” فيدرالية كردستان السورية”، بصيغة كونفدرالية مشابهة للحالة العراقية، بانتظار الدولة الكبرى التي لم يعد يعيقها سوى العقبة التركية، على ما يبدو.
ترى قناعات تركية أن بين أهم دوافع قرار الإسراع في إعلان الكيان الفيدرالي الكردي على الجانب الحدودي السوري، الممتد إلى مسافة 400 كلم تقريباً، هو الضربات الموجعة التي تلقاها حزب العمال الكردستاني في مدن جنوب شرق تركيا، في الأسابيع الأخيرة، وكلفته تحطيم بنيته التحتية العسكرية والبشرية، وتراجع حلم تحريك الشارع الكردي هناك، ما دفع شريكه وحليفه، حزب الاتحاد الديمقراطي، لتعويض هذه الخسارة، بنقلة من هذا النوع في شمال سورية. وطبعاً يتم ما يجري بتوجيهات ودعم روسي أميركي مباشر، رداً على “التمرد” التركي الإقليمي. الهدف الأول للانسحاب الروسي العسكري من سورية هو التمهيد لإعلان الفيدرالية، بعيداً عن وجودها، حتى لا تتهم موسكو بأنها فتحت الطريق أمام الكيان الكردي، في أثناء وجودها العسكري المباشر فوق الأراضي السورية.
قناعة تركية أخرى هي أن للإعلان عن فيدرالية شمال سورية علاقة أيضاً بالتقارب والتنسيق التركي الأوروبي الذي يستعد للإعلان عن تحريك مطلب المنطقة الآمنة، عبر المدينة الكبرى التي تعهدت تركيا ببنائها للاجئين السوريين داخل أراضيهم، وتعطيل مشروع التمدّد الكردي، ومحاولات ربط الكانتونات الكردية الثلاث المعلنة ببعضها جغرافياً، للسيطرة الكاملة على الشريط الحدودي الجنوبي.
فتح التفاهم الأميركي الروسي الأبواب على وسعها أمام حزب الاتحاد الديمقراطي، ليقدم على خطوته هذه، وخصوصاً أن موسكو أشرفت على عملية التنسيق بين صالح مسلم والنظام السوري، ثم حاصرته بالخطوة الكردية هذه، بعدما أقنعته هو بالدفاع عن تمدد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي نحو الشمال الغربي وحلب، فيما تحملت واشنطن عبء الضغط على أنقرة، لمنعها من التدخل العسكري المباشر في شمال سورية، وتأزيم المشهد السوري أكثر فأكثر، وتحمليها مسؤولية إشعال حرب إقليمية واسعة، تنطلق من حدودها المشتركة مع سورية. ووسط تصفيق أميركي روسي، استطاع حزب الاتحاد الديمقراطي إخراج الأرنب الكردي من القبعة السورية.
أما عن بشار الأسد، فلم يعد خطاً أحمر روسياً، لكنه كذلك بالنسبة لإيران، بانتظار أن تضمن تمركز الكيان الكردي، وتعرف حصة داعش الحقيقية في الجغرافية السورية، وما سيقدّم للمعارضة السورية، في إطار حصة السنة العرب، وحدود الدويلة العلوية. ولن ينأى لبنان بالنفس حيال فيدرالية شمال سورية، وكذلك العراق، بل سيدعمانها ضد أي مشروع اعتراض أو إدانة عربي، لأن ما يجري يخدم المشروع الإيراني في المنطقة.
يعترض مسعود البرزاني فقط على تحرك أكراد سورية، لأنه يجد في الخطوة بروز منافس كردي قوي له على الزعامة، لكنه يعرف أن التجربة العراقية تتكرّر في سورية، وسيلتزم بأية توصيات أميركية روسية تنصحه بعدم المبالغة في انتقاد صالح مسلم، لأن الخطوة الكردية ستتبعها خطوات لاحقة في سورية وخارجها، لا يجوز تعطيلها أو تعريضها للخطر.
أما إيران وحزب الله فسيعترضان لفظياً على المشروع الفيدرالي الكردي، لكنهما لن يدخلا في أية عملية تصعيد سياسي، أو عسكري، ضده، لأنه يخدم، في النهاية، مشروع إيران الإقليمي، بإضعاف أي سيناريو نحو بناء سورية جديدة، سنية الميول والهوى، ولأنه يعني تكرار التجربة العراقية التي أعطت إيران حصة الأسد، من دون أن تدفع أي ثمن سياسي في مقابل الخدمات الأميركية هناك. وها هي روسيا تقدم لها الهدية نفسها، في مقابل تعهد واحد، هو رفع حجم العلاقات التجارية بين البلدين إلى 70 مليار دولار، خلال السنوات الخمس المقبلة، تضييقاً للخناق أكثر فأكثر على تركيا.
لن يكتمل مشروع فيدرالية شمال سورية إلا بعد ربط الكانتونات الكردية ببعضها، واسترداد أكراد المدن الكبرى الذين يعيشون تحت حكم النظام، وجمعهم في مدينة سورية كبيرة، تكون تحت سيطرة الحكم الفيدرالي، وتنهي خدمات النظام في دمشق، وحظوظ حلب كبيرة جداً في أن تلعب هذا الدور.
كيف سيكون رد النظام السوري الذي أعلن، كلامياً، رفضه هذه الخطوة عملياً على الأرض؟
هل سيكتفي بالاحتفاظ بحق الرد، كما فعل دائماً حيال الهجمات الإسرائيلية، أم إنه سيتحرّك مدعوماً ومسلحاً بالموقف المصري لإفشال الخطوة الكردية، بعدما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام فيدرالية كردية تفرض عليه، فيما كان يلتزم بموقف القاهرة في قيادة سيناريو بناء معارضة سورية بديلة، افترض بعضهم أنها ستكون فرصة الخلاص الوحيدة، وأشرك صالح مسلم نفسه فيها بعد لقاءات عديدة في القاهرة.
ترى أنقرة أن القضية أبعد من أن تكون قضية ما الذي ستقوله هي، وكيف سترد، لأن ما يجري يتعلق مباشرةً بدولة عربيةٍ تتفتت على مرأى مواطنيها ومسمعهم، ورغماً عنهم، وحيث من المفترض أن تكون جزءاً من مجموعة الدول العربية التي توحدت فيما بينها، وتعاهدت على حماية بعضها جغرافياً، وتعاقدت على التصدّي لأي مشروع تقسيمي تفتيتي، يستهدف حدودها وبنيتها. فلماذا يُطلب إليها أن تكون ملكاً أكثر من الملك؟
قد يرضي سيناريو الاعتدال في سياسات حزب الاتحاد الديمقراطي، والتخلي عن لغة التنسيق مع العمال الكردستاني، والتقارب مع الائتلاف الوطني السوري المعارض، أنقرة، ويمنحها الوقت والفرص وعدم إطالة القطيعة مع أكراد سورية، كما حدث مع أكراد شمال العراق.
ويمنح الكيان الفيدرالي تنظيم داعش فرصة الاعتراض على المساس بحصته الجغرافية في سورية، طالما أن الحديث هو عن الكونفدرالية والتقسيم، وطالما أنها ستتعهد بعدم الاعتراض أو المساس بأي تصور جغرافي سوري جديد، طالما أنه لا يستهدفها.
وبشأن مسارعة الرئيس الإسرائيلي، رؤوبين ريفلين، للقاء نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو، قد يكون سببها في العلن تعطيل صفقة تزويد إيران بالصواريخ الروسية الاستراتيجية التي تبحث عنها، لكنه في الخفاء قد يكون شكر موسكو على دعمها مشروع الفيدرالية في سورية، ووضع الحجر الأساسي له، عبر الكيان الكردي في الشمال، قبل قرار سحب الترسانة العسكرية الروسية من سورية.
.. فيدرالية شمال سورية خطوة على طريق إبعاد سورية عن العالم العربي، وإضعاف تركيا في سورية، ومحاصرة المعارضة السورية بخيار التفاوض مع النظام والأكراد، وقبول ما سيقدم لها. ويبقى السؤال: من الذي سيعترف بالكيان الفيدرالي المعلن بعد إسرائيل التي رحبت دائماً بكل مشروع وسيناريو تفتيتي في العالمين العربي والإسلامي، في إطار حماية نفوذها وقوتها، وسط كل هذا المد والجزر في المنطقة؟ واشنطن “ستتفهم” في النهاية ما يفعله حلفاؤها الأكراد. لذلك، لن يستغرب أحد إذا ما كانت داعش هي ثاني من يعلن ترحيبه بهذا الجار الجديد الذي يعطيها الفرصة لتكريس نفسها، وسط لعبة الكيانات العرقية والمذهبية واللغوية التي يواصلها أكراد شمال سورية، بعد أكراد شمال العراق.
المصدر : العربي الجديد