لم يحن الوقت بعد، لتقييم سياسة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وخياراته، على مستوى السياسة العالمية. لكن ما جرى في سورية، وما يجري حتى الآن، وربما فترة طويلة قادمة، يكفي لفتح ملف هذه السياسة، وإدانتها بالمطلق. وليست سياسة أوباما السورية مستقلةً، كما يظهر أكثر فأكثر، عن سياسته الإيرانية والشرق أوسطية عموماً.
وعلى الرغم من كل ما نُشر من تحليلاتٍ وتفسيراتٍ جيوسياسية وسياسية ونفسانية، لا أحد يستطيع بعد أن يعرف الدوافع الرئيسية وراء سياسة الرئيس الأميركي السورية التي كان عنوانها العريض، بعد أن نصرف النظر عن بعض العبارات الإنشائية، المحافظة على نظام الأسد، والتغاضي عن جرائم وصفتها جميع المنظمات الحقوقية بجرائم حرب أو ضد الإنسانية، من استخدام الكيماوي إلى القصف بالبراميل المتفجرة العشوائية، إلى حصارات الجوع البدائية، إلى تعميم المعتقلات والقتل تحت التعذيب.
وفي نظري، كل ما ذكره المحللون من فرضياتٍ عن رفض التدخل الخارجي، وتجنب توريط أميركا في حروبٍ جديدة، أو عن مراعاة الجانب الإيراني، لضمان التوصل إلى تسويةٍ في الملف النووي، أو الاتجاه نحو آسيا والصين، المنافس الجديد لأميركا، والانسحاب من الشرق الأوسط، ليس كافياً ولا مقنعاً، لفهم ما حصل ويحصل.
فكما تبين ذلك وثيقة الدبلوماسيين، لم يحبط الرئيس الأميركي السوريين والعرب فحسب، لكنه أحبط بسياسته التي تحولت إلى تواطؤ مع إرهاب الدولة، والقتل المنهجي خلال خمس سنواتٍ للمدنيين، وتهجير الملايين منهم من وطنهم، صانعي السياسة الأميركية وخبرائها معاً. مع العلم أن المطلوب من واشنطن لم يكن أبداً التدخل العسكري المباشر، كما يطالب هؤلاء الساسة اليوم، لإسقاط بشار الأسد، وإنما تسليح الرجال الأحرار الذين رموا بأنفسهم في أتون المحرقة، للدفاع عن كرامتهم وحرياتهم وحقوقهم في وطنهم.
وعلى الرغم من أن الوثيقة التي نشرها أكثر من 50 سياسياً ودبلوماسياً أميركياً، احتجاجاً على هذه السياسة، لا تقدّم أي جوابٍ على أصل الخطأ، وأنها، على الأغلب، لن تثني الرئيس الأميركي عن سياسته غير المفهومة، إلا أنها تشكل إدانةً علنية لها، وتفتح طريق هذه المحاكمة التي لن تتأخر كثيراً بعد رحيل أوباما عن البيت الأبيض في القريب. وهي تفصح، منذ الآن، عن عدة أمورٍ مهمة، وتستحق التفكير.
من عبر وثيقة الدبلوماسيين الأميركيين
الأمر الأول هو الاعتراف المباشر بأن سياسة أوباما، وبالتالي الدولة الأميركية التي يمثلها،تتحمل مسؤوليةً رئيسيةً في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، وأن سياسةً أكثر التزاماً بمبادئ القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة كانت كفيلةً بتجنيب سورية والمنطقة والعالم ما أصبح يوصف من الجميع بأنه أكبر كارثةٍ إنسانية شهدها هذا العصر. وهذا يعني أن المسؤول الأول عن التطورات الدراماتيكية للأوضاع، بما في ذلك ظهور “داعش”، وتوسّع دائرة الإرهاب، وزعزعة استقرار المنطقة، وربما تفجيرها، هو تخلي واشنطن، وهي الدولة المفتاح، عن مسؤولياتها الدولية. وهذا بصرف النظر عن الإخلال بتعهداتها تجاه حلفائها التقليديين في المنطقة، وفي مقدمهم دول الخليج وتركيا، أو ادعاءاتها الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة النظم الشمولية والفاشية لدى الرأي العالمي.
الأمر الثاني هو أن انتقاد العرب واشنطن، بسبب هذه السياسة التي تهدّد بكارثةٍ إقليمية، تشمل الجميع، لم يكن انتقاداً مجانياً ينبع من أي عداءٍ مسبق للولايات المتحدة والغرب، أو من تمحور العرب حول مصالحهم القومية أو الوطنية، وعدم مراعاة مصالح الآخرين، ولا من رفضهم، كما يميل أوباما وأنصار سياسته إلى القول، تحمل مسؤولياتهم والنزوع إلى رميها على الآخرين، وإنما هو انتقاد موضوعي ومبرّر سياسياً وأخلاقياً، فمآخذ العرب على خيارات الرئيس أوباما، منذ خمس سنوات في الشرق الأوسط، لا تختلف أبداً عن مآخذ السياسيين الأميركيين، وربما قد تكون أكثر اعتدالاً. فليس هناك من بين العرب من طالب بتدخلٍ عسكريٍّ لقلب بشار الأسد، وكل ما يطلبونه هو دعم المقاتلين السوريين، والوقوف بقليلٍ من الحزم ضد التدخلات العسكرية السافرة لإيران والمليشيات التابعة لها، ثم تسليم روسيا ملف التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ تؤكد هي نفسها أنها لن تكون إلا بالمحافظة على نظام الأسد القائم، وربما الحفاظ على الأسد نفسه في منصبه.
والأمر الثالث هو رد الاعتبار للمعارضة وللمجلس الوطني الذي كان يمثل قوى الثورة والمعارضة، في أول مرحلةٍ من تاريخ بناء السياسة السورية الثورية مع الخارج، وتنسيق العلاقات الدولية، فقد جاءت وثيقة الدبلوماسيين الأميركيين لتؤكد خطأ الاعتقاد الذي ساد خلال سنوات، عند الرأي العام العربي والدولي، بأن سلبية الموقف الأميركي وتردّد أوباما في اتخاذ القرارات التي كانت منتظرةً منه، كانت ناجمةً عن إخفاق المعارضة الممثلة في المجلس الوطني آنذاك في الدفاع عن أهداف الثورة السورية الشعبية، أو عن ممالأتها الدبلوماسية الدولية.
وأفضل برهانٍ على نجاح المعارضة والمجلس الوطني، في ذلك الوقت، في سحب البساط من تحت أقدام الأسد ونظامه، ما تبينه الوثيقة الدبلوماسية من اقتناعٍ عميقٍ ساد أوساط الخارجية الأميركية والدولية بمشروعية الثورة السورية الشعبية، كما تبينه المبادرات العديدة التي قدّمها هؤلاء الدبلوماسيون للرئيس الأميركي لممارسة ضغوطٍ قويةٍ على الأسد، لثنيه عن القتل المجاني، وعن السعي إلى حسم الصراع بالقوة والعنف الهمجي، وأهمها اقتراح وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، نفسها في صيف 2012 التي طالبت الرئيس بتسليح المعارضين للأسد وتدريبهم. لكن جميع هذه المبادرات باءت بالفشل، بسبب معارضة الرئيس أوباما القوية، على الرغم من التعبئة الواسعة التي حصلت في وسط الرأي العام العالمي، الشعبي والرسمي، في مواجهة جرائم الأسد، وتبني قرار مقاطعة النظام دولياً، وفرض العقوبات على رجالاته، والتصويت على عدة قرارات أخرى في مجلس الأمن لفرض الانتقال السياسي، ووضع حد للحرب العدوانية على الشعب السوري، على الرغم من اعتراضات موسكو ومناوراتها.
والأمر الرابع أن هذه السياسة الهزيلة واللامسؤولة للرئيس الأميركي هي التي شجّعت الأسد وحلفاءه على التمادي في استخدام العنف، وارتفاع سقف تطلعاته وأطماع حلفائه التي وصلت إلى شن الحرب الشاملة على الشعب السوري، بمساعدة القوة الإيرانية، ورفض أي حوارٍ أو مبادرةٍ سياسيةٍ وإجهاضها، وعدم التورع عن استخدام أي وسيلةٍ، بما فيها الإبادة الجماعية والتعذيب الوحشي للمعتقلين والتمثيل بالجثامين والتهجير القسري والحصار للتجويع والتنكيل والترويع، للحفاظ على النظام.
والأمر الخامس أن سلبية الولايات المتحدة ساهمت في تعطيل آليات التضامن الدولية مع الشعب السوري، القانونية والسياسية والعسكرية، وسمحت لقوى التدخل الإيراني وحزب الله والمليشيات الطائفية بالاستفراد بالمجموعات الثورية، هي التي ساعدت على استمرار الحرب وولدت، على هامشها، مشاعر الإحباط والخوف والألم. وليس هناك شك في أن تخاذل الدبلوماسية الأميركية، وعدم وفائها بوعودها للشعب السوري، كانا من العوامل الرئيسية في تفجير أزمة المعارضة السياسية، وأزمة المجلس الوطني نفسه، وفي ضرب ثقة الجمهور السوري بها وتهميشها. فقد دفع الصمت الأميركي أمام جرائم الأسد اليومية بالرأي العام إلى اتهام المعارضة بالتقصير، وربما “الضلوع” مع الولايات المتحدة في تجنيب النظام السقوط، وفي أحسن الأحوال، بالفشل في إقناع الدبلوماسية الدولية بعدالة القضية السورية. وبالتالي، كان لهما الأثر الأكبر أيضاً في دفع قطاعاتٍ واسعةٍ من المعارضة المسلحة والرأي العام إلى التشدّد والتغاضي عن توسع نشاط الحركات المتطرفة والإرهابية، قبل أن يتبينا خداعها. وللمفارقة، أصبحت هذه الحركات التي أنتجها الجبن والتخاذل الأميركي والدولي، فيما بعد، قميص عثمان الذي تتذرّع به الدبلوماسية الدولية، لتبرير مزيد من التراجع والانسحاب أمام الأسد وطهران، وترك الشعب السوري فريسةً لجميع القوى والمليشيات المتنازعة.
والأمر السادس أن موقف الرئيس الأميركي الذي أمل منه أن يوفر على الولايات المتحدة تضحياتٍ لا داعي لها، تصب في خدمة مصالح الآخرين، وادّعى فيه أن مصالح الولايات المتحدة تفرض عدم انخراط واشنطن نفسها في أي صراعٍ يهدّد حلفاءها، وإنما هي مستعدّة لتقديم الدعم لهم، إذا قرّروا الدفاع عن مصالحهم، كما ردّد ذلك في أكثر من خطاب. أقول إن هذا الموقف هو نفسه الذي أصبح يعني اليوم، في نظر مسؤولين أميركيين كثيرين، عنوان انحسار دور أميركا العالمي، وهو أيضاً السبب في توليد مخاطر لا تهدّد الآخرين فحسب، وإنما الأمن والسلام الدوليين، ولا توفر الولايات المتحدة على الإطلاق. واضطرت الإدارة الأميركية إلى الاعتراف، منذ الآن، بأن “داعش” والإرهاب سوف يشكلان خطراً عالمياً من الصعب مواجهته فترة طويلة.
القيادة العالمية بين البطش والاستقالة
لا أعتقد أن الأنانية القومية أو الخوف من المخاطر المحتملة هي التي كانت وراء الخيارات غير المعقولة للرئيس الذي بعث انتخابه، وهو المثقف الإنساني، آمالاً كبيرةً، بتغيير وجه سياسة واشنطن التي حفلت قبله بالمبادرات السلبية والمدمرة في الشرق الأوسط بشكل خاص، من أفغانستان إلى العراق وغيرها من البلدان، لم ينجح في الوفاء بها. وربما كان اعتقاد الرئيس الأميركي أن تجنب الانخراط في المشكلات الدولية هو أفضل طريقة لتجنب الهزائم التي مُنيت بها واشنطن من قبل، بسبب السياسات المغامرة وغطرسة القوة التي ابتلي بها عديد من أسلافه.
لكن، إذا كان هناك درس ينبغي استخلاصه من هذه الكارثة التي تسببت فيها سياسة أوباما في سورية والمشرق والعالم، والتي ستستمر مفاعيلها حقبة طويلة مقبلة، فهي أن صانع القرار الأميركي تجاهل أن العالم لم يعد مجموعةً منفصلة من الدول السيدة، ولا من الأمم المتجاورة والمتباعدة التي تعيش كلٌّ منها في كوكبٍ يسبح في فلكٍ ثقافيٍّ واقتصاديٍّ وحضاريٍّ خاص به، وإنما أصبح منظومةً واحدةً مندمجة، متفاعلةً ومتواصلةً كالأواني المستطرقة. وأن أي تداعٍ لعضو فيه يتداعى له الجسد العالمي كله. وأن عدم التدخل والانخراط الفعال والناجع، لوضع حدٍّ لتفجر الأزمات المحلية والإقليمية، يمكن أن يكون، في هذه الحالة، أكثر خطراً في نتائجه من التدخل السيئ والخاطئ نفسه، على سيادة الدول، حتى الكبيرة منها، وأمنها وسلامها وازدهارها. وأن غياب القيادة العالمية القادرة على معالجة الأزمات الملتهبة في الجسد الواحد لا يقلّ أذى وتداعيات خطيرة عن مزاولة القيادة العالمية، كما فعل سلفه، بأسلوب التسلط والإملاء والعنف الأوهج.
دمار العراق وسورية هو الثمرة المرّة للنمطين السيئين من القيادة المتسلطة والانكفائية. والأمل، بعد هذه التجربة المريرة، هو أن لا تكون سياستنا العالمية محصورةً بين خيارين: تدخل عدواني ولا مسؤول من طرف، أو استقالة سياسية وتخلّ عن المسؤوليات العالمية، لا يقل، في نتائجه، كارثيةً عن التدخلات الوحشية والاستعمارية، من الطرف الثاني.
المصدر : العربي الجديد