يسود لدى القائمين بالثورات ومناصريها اعتقاد مفاده أن مشروعية أي ثورة لا تتأتّى إلا مع الاعتقاد بنجاحها أو انتصارها المحتّم، وقبل ذلك باستمرارها وبصحّة طريقها، مهما كانت الظروف والتحوّلات والأثمان، علما أن هذا اعتقاد إيماني ويقيني ومطلق، لا علاقة له بالواقع والمنطق والتاريخ. القصد من ذلك التوضيح، مع التقدير لأصحاب وجهة النظر السابقة ونواياهم الطيبة، بأن مساندة أي ثورة سببها أساسا الاقتناع بمشروعيتها وضرورتها وعدالتها، كما بانسداد الطرق نحو التغيير بالوسائل السلمية أو الشعبية، أما نجاحها فهذا شأن آخر يخضع إلى موازين القوى، والمعطيات المحيطة المواتية والإدارة الملائمة. وقد تكشّفت التجربة التاريخية عن ثورات انتصرت، كما عن ثورات أخفقت أو انحرفت، وعن ثورات حقّقت بعضا من أهدافها، وهذا يشمل التجارب العربية وثورات “الربيع العربي”؛ ناهيك أنه لا توجد ثورات كاملة أو نظيفة أو ثورات إلى الأبد.
بيد أن الكلام الذي يخضع الثورات للمساءلة والنقد، وضمنه احتمال انحرافها أو فشلها أو حتى لجوئها إلى المساومة لتحقيق بعض من أهدافها، كونها لا تستطيع تحقيقها كلها، قد لا يستهوي البعض رغم أن الواقع أصعب وأقسى وأكثر تعقيدا، ولا سيما أن مثل هذا الكلام يصدر عن مؤيدين للثورة، ويتوخّى التنبيه إلى مكامن نقصها أو ضعفها، والأخطار التي تتهددها، على نحو ما يحصل مثلا في سوريا.
عموما فقد انطوت المرحلة التي كان يجري فيها التأييد المطلق للثورات، لصالح الكتابات النقدية، بعد أن باتت متعيّنة بالتجربة بما لها وما عليها، والمشكلة أن هذا حصل بعد كل هذه الأثمان الباهظة، وبعد تبين أن طريق الثورات ليس سهلا، ولا بسيطا، بل تكتنفه تعقيدات جمة، علما أن ذلك لا ينجم فقط عن موازين القوى، أو عن التدخلات الخارجية المعيقة والمضرة، وإنما هو ناجم أيضا عن درجة نضج الأدوات الثورية، أي الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية، بمعنى درجة تنظيمها ومدى إدراكها لواقعها ومحيطها، وحسن إدارتها لصراعها وعمق اعتمادها على شعبها.
هذا الكلام يكتسب وجاهته ومشروعيته من واقع أن الثورة السورية، إضافة إلى كلفتها الباهظة والتعقيد البالغ فيها، والتدخلات الدولية والإقليمية المهولة، التي تقيّدها أو تعبث بها، باتت تعاني من نقص بالغ الخطورة، يتمثل أولا في غياب أو ضمور بعدها الشعبي. وإذا سلمنا بأن النظام اشتغل بدأب على ذلك، وبوسائل العنف والحصار والتجويع والتشريد، لرفع كلفة الثورة وعزلها وإضعافها، فإن هذه الثورة بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، تتحمل أيضا بعضا من المسؤولية عن هذا الأمر، في مبالغتها بالعسكرة وارتهانها للصراع المسلح وحده، من دون تبصّر وبمعزل عن الإمكانيات والاستعدادات، وأيضا بتوهّمها إيجاد مناطق “محررة” في المدن، وعدم اشتغالها على جسر الفجوات بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، وعدم قيامها بإيجاد الأطر التي تعبر عنهم أو تمثلهم، وأيضا في إخفاقها تقديم نفسها إزاء شعبها كسلطة أو كقيادة بديلة.
ثانيا، يتمثل ذلك أيضا في إخفاق تجربة المناطق المحرّرة، ليس بسبب ضعف الموارد البشرية والإمكانيات المادية، وبسبب إمعان النظام بتدميرها وحصارها فقط، وإنما بسبب الفجوة التي نشأت بين السلطة الجديدة المفترضة للثورة والبيئات الشعبية الحاضنة لها أيضا. وقد أسهمت في ذلك النزعة التسلطية التي انشغلت بفرض سلطة الأمر الواقع بقوة السلاح على المجتمعات المحلية، ووأد تجارب اللجان المحلية المنتخبة، وتسييد ما يسمى الهيئات “الشرعية”، وتحويل هذه المناطق إلى بؤرة لنمو الجماعات المتطرفة، والغريبة بمفاهيمها وسلوكياتها عن مجتمع السوريين، وبواقع تشرذم التشكيلات العسكرية، وصبغها بالطابع الطائفي/ المذهبي. وبديهي فإن ما زاد الطين بلة ظهور جماعتي داعش وجبهة النصرة، اللتين أضرتا بثورة السوريين، وبإجماعات السوريين مع أجندتهما المضادة للثورة السورية.
ثالثا، تعاني ثورة السوريين من وجود كيانات عسكرية لا جامع بينها، بل إنها تتنازع في ما بينها، مستنزفة في ذلك قواها، ما يضرّ بالثورة وصدقيتها وصورتها إزاء شعبها وفي العالم، ومشكلة هذه الكيانات أنها لا تشتغل وفق هيكلية منظمة، ولا توجد هيئة قيادية موحدة ولا مرجعية سياسية واضحة لها، والأنكى أن بعض هذه الكيانات العسكرية تدّعي مشروعا سياسيا مع صبغة دينية أو طائفية، وقد شهدنا أن هذه الفصائل تتقاتل في ما بينها حتى والنظام يحاصرها.
رابعا، فوق كل ما تقدم فإن الثورة السورية باتت منذ زمن لا تواجه النظام لوحده، ولا النظام وإيران مع ميليشيات عراقية وحزب الله فقط، ولا كل هؤلاء فحسب، إذ انضم إلى الجميع “داعش”، وفوق كل الجميع أضحت روسيا أيضا بجبروتها العسكري في مواجهة هذه الثورة، ناهيك عن اللامبالاة والتلاعبات بها على الصعيدين الدولي والإقليمي.
باختصار ثمة كارثة بمعنى الكلمة، فالأوضاع الدولية والإقليمية تعاند السوريين، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى لمتطلباتهم، والأوضاع العربية والإقليمية لا تساعدهم على نحو جيّد، بل إن بعض الأطراف وجدت في هذه الثورة فرصتها لفرض ذاتها كلاعب إقليمي، من خلال التلاعب بالثورة وفرض مسارات أو خطابات معينة عليها؛ ولعل ما حصل في حصار حلب وانهيار الفصائل العسكرية، فيما العالم يتفرج، يؤكد ذلك.
طبعا لا يعني ذلك تراجع مشروعية الثورة أو تآكل ضرورتها التاريخية أو عدالة مقاصدها، كما لا يعني ذلك أنها وصلت إلى نهاية طريقها، لأن هذا يعتمد على أمور كثيرة، من بينها التحولات ضمن الثورة ذاتها، وفي المعطيات الخارجية المساندة لها. إزاء ذلك ثمة ثلاثة احتمالات متعددة في المدى المنظور، وفي إطار موازين القوى والمعطيات السائدة:
أولها، استمرار الوضع الراهن، بمعنى جمود الوضع الحالي واستمرار الاستنزاف المتبادل بين كل الأطراف، وهذا احتمال يرجحه تحوّل سوريا إلى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، وحالة عدم الحسم في القرار الأميركي.
وثانيها، نشوء نوع من تدخّل خارجي غير مباشر، ربما على شكل حظر جوي، أو إنشاء مناطق آمنة، وهذا ما يتيحه التمدد التركي وتواجد قوات أميركية وقوات من دول أوروبية أخرى على الأرض بهذا المستوى أو ذاك.
والاحتمال الثالث، فرض نوع من تسوية بطريقة ما، وعلى الجميع، وهو احتمال لا يمكن أن ينشأ إلا بحسم الولايات المتحدة الأميركية لأمرها، وإيجاد حل ما يفضي إلى إيجاد هيئة حكم انتقالية مع صلاحيات كاملة، بوجود الرئيس أو عدمه ولو مؤقتا، بحسب ما أفصحت عنه التوافقات الأميركية/ الروسية. وهذا يعني أننا إزاء احتمالات استمرار الصراع والنزيف، أو احتمال تحقيق هدف جزئي يتمثل في إنهاء حكم بشار الأسد بوجود هيئة حكم انتقالية.
أما الاحتمال المرتجى، والمتمثّل في انتصار الثورة، فهو بصراحة ما زال بعيدا مع الأسف، لأنه يحتاج إلى مقدمات ليست متوفرة بعدُ، ولأن الواقع لا يعمل بحسب العواطف أو الرغبات.
المصدر : العرب