مقالات

برونو تيرتريه : هل أذلّ الغرب روسيا؟

عادت حدة توتر الأزمة الأوكرانية الى الارتفاع مع وصول تعزيزات عسكرية روسية الى شرق البلاد، في تعبير عن الازدراء للتعهدات التي قطعتها موسكو. ومع ذلك، لايزال عدد من المسؤولين السياسيين ووزراء الخارجية السابقين والمعلّقين والخبراء على جانبي الأطلسي يعتقد بأن البلدان الغربية مسؤولة عما سماه بعضهم «الحرب الباردة الجديدة». ففي اعتقادهم ان الغرب «لم يكف عن إذلال روسيا» منذ سقوط جدار برلين. ويبدو هذا الرأي الغريب بمثابة اعادة كتابة للتاريخ. لنعد أولاً الى 1989: بعد سقوط الجدار ألقي اللوم على الغرب لموقفه الممالئ لموسكو. فقد اعترى واشنطن القلق من انفجار الاتحاد السوفياتي، ولم تعترف باستقلال جمهورياته السابقة سوى بعد حله رسمياً في 1991.

هل احتقرنا روسيا حقاً او عزلناها منذ ذلك الحين؟ دُعيت موسكو الى الانضمام الى «مجلس أوروبا» (1996) وإلى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (1998). وحاول جورج دبليو بوش اقامة شراكة حقيقية مع فلاديمير بوتين، الى أن أفضى اجتياح جورجيا الى تبريد العلاقات بين البلدين. وراهن نيكولا ساركوزي- بل جازف- ببيع موسكو سفينتين حربيتين، وتمنى باراك أوباما «إرجاع العدادات الى الصفر» خصوصاً من خلال التوصل الى اتفاق جديد لنزع الأسلحة (2009). بيد ان هذه السياسة لم تطلق العنان سوى… للإذلال المتعمد الذي مارسته موسكو ضد واشنطن عندما قدمت الأولى حق اللجوء السياسي لـ (الموظف السابق لدى وكالة الأمن القومي الأميركية) ادوارد سنودن في 2013.
وللدقة، فموضوع «إذلال روسيا» المُدّعى يشمل 3 مسائل تثير الغضب. الأولى هي توسيع حلف شمال الأطلسي. لنقل ان خيانة حصلت للعهد الذي قُطِع نهاية الحرب الباردة بعدم توسيع الحلف. يقتصر الأمر، في أفضل الأحوال، على سوء تفاهم. اثناء مفاوضات توحيد المانيا (شباط – فبراير 1990)، اشار وزيرا الخارجية الأميركي والألماني الى قدرتهما على الحد من تقدم «الناتو» نحو الشرق، أخذاً في الاعتبار بواعث القلق السوفياتية. وهذا ما تكرس في معاهدة «4+2» حول توحيد المانيا (القاضية بعدم نشر قوات اجنبية على اراضي جمهورية ألمانيا الديموقراطية السابقة). في ذلك الحين لم تكن مطروحة مسألة توسيع «الناتو» لأن موسكو وواشنطن لم تتوقعا حل حلف وارسو. وهل يصح الاعتقاد جدياً بأنه لو قدمت بون وواشنطن ضمانات بعدم ضم بلدان الشرق في المستقبل الى الحلف الأطلسي، ألم تكن موسكو لتصرّ على صوغها خطياً؟
المسألة الثانية هي الدفاع المضاد للصواريخ. ماذا قدمت روسيا الى الولايات المتحدة و»الناتو»؟ اقترحت نشر انظمة جديدة مصممة لمواجهة تهديد بالستي في أوروبا آتٍ من الشرق الأوسط. ومنذ نهاية التسعينات، بذلت دول الغرب كل ما في وسعها لطمأنة موسكو بدءًا من اقتراح التعاون الثنائي حول هذا الشأن (لم يسفر عن شيء بسبب رغبة روسيا في الاستحواذ على حق النقض على نشر الوسائط الأميركية).
المسألة الثالثة تتناول اعادة بناء الأمن الأوروبي. وينفع هنا ايضاً التذكير بالتاريخ. فروسيا وقّعت مع البلدان الغربية ميثاق باريس (1990) وميثاق الأمن الأوروبي (1999)، وهي عضو في «الشراكة من اجل السلام» منذ 1994 ويتعامل «الناتو» معها كشريك مفضل. وعندما أبدت بلدان حلف وارسو سابقاً رغبتها في الانضمام الى «الأطلسي» نهاية التسعينات، أعلن الحلف رسمياً- لتهدئة الهواجس الروسية- أنه لن ينشر أسلحة نووية ولا قوات قتالية كبيرة على أراضي الأعضاء الجدد. ولو أراد الحلف إذلال روسيا، لكان سلك طريقاً آخر. أما بوتين فانتهك في 2014 كل التعهدات التي قطعتها موسكو في هذه الملفات. لم تدعم موسكو غير التابعين القدماء الذين اختاروا بملء الحرية عدم الانضمام الى المجموعة الغربية. ويحلم بوتين بالعودة الى نظرية «السيادة المحدودة» التي سادت في سنوات (الزعيم السوفياتي ليونيد) بريجنيف ويود الحصول على حق الإشراف على قرارات الحلف الأطلسي: هذا هو معنى اقتراحات «معاهدة الأمن في اوروبا» الجديدة. ولا مجال لاستغراب اتسام الاقتراحات التي رُفضت بتلك الدرجة من الغموض.
وعلى جاري العادة في التاريخ، يخبئ الإذلال رغبة في الانتقام ويشكل اداة للحشد السياسي لخدمة استراتيجية العودة الى دوائر النفوذ التي رسمت في ازدراء لإرادة الدول. والحفاظ على الحوار مع روسيا ضروري، ولكن ينبغي ان يقوم على اسس سليمة. ويمر هذا عبر رفض تلك الخطابة غير الملائمة.

الحياة _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى