من محاسن العاصفة الثلجية الأخيرة التي تعرضت لها مخيمات اللاجئين والنازحين السوريين في لبنان والأردن على وجه التحديد، والداخل السوري نفسه، أنها سلّطت الضوء على محنة مستمرة منسية، يعيشها السوريون والسوريات، خاصة الأطفال منهم، منذ نحو أربع سنوات. فهؤلاء يعيشون بؤساً وقهراً وإحباطاً يـوميـاً ويشعـرون في الوقـت ذاتــه بأنهم باتوا الجزء الهامشي من المحنة السورية الكبرى، وهي محنة أساسها التعطّش السادي إلى السلطة ونهم لا يرتوي للمال الحرام، وذروتها تكامل الأدوار بين الاستبداد الفاسد والتطرف الإرهابي.
هكذا أصبح الإنسان السوري بين نارين، وبات النزوح المخرج الاضطراري على رغم تبعاته الكارثية. نصف الشعب السوري، وربما أكثر، موزع اليوم بين نازح ولاجئ، والمأساة تبدأ كما نعلم جميعاً بمجرد أن يترك الإنسان منزله من دون إرادته، ليجد نفسه مع أسرته في خيمة لا تمنع عنه برداً أو حراً، ولا توفر له الحد الأدنى من متطلبات العيش المقبول.
على رغم ذلك، تغدو هذه الخيمة نفسها الفردوس المنتظر لأولئك العالقين على الحدود، أو الذين دخلوا المخيم اضطراراً ومن دون إذن، ولم يحصلوا على خيمة للإقامة فيها رسمياً.
لقد اعتقد السوريون أن المخيمات حالة موقتة، وأن العودة قريبة. أما وقد شارف العام الرابع من عمر المأساة السورية على نهايته، من دون أن تبدو في الأفق بوادر مشجعة، فهذا ما لم يحسبوا حسابه، وذلك بعد كل ما سمعوه من تعهدات وتصريحات من كل حدب وصوب تؤكد نزع الشرعية عن النظام، وتدعو إلى احتـــرام تطلعات الشعب السوري، والوقوف إلى جانبه. ومع الوقت أيقن السوريون أنهم وحدهم، وأن ما قدّم ويقدّم لهم من دعم محدود لا يرتقي أبداً إلى الحد الأدنى من حجم الكارثة الكبير، وإنما كان ضمن إطار مستلزمات وضرورات مراعاة قواعد إدارة الأزمة، وإيهام الرأي العام في الدول المانحة بأن حكوماتها فعلت شيئاً يريح الضمائر، وذلك استعداداً لحسابات انتخابية، أو مراعاة لمشاعر داخلية، محسوبة المقادير والتوقعات.
وضمن هذا السياق نرى أن مشروع مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة الخاص بإعادة توطين 130 ألف لاجئ سوري في بلد ثالث هو الآخر لا يعالج المشكلة المتفاقمة، إن لم نقل إنه يعقدّها. فالعدد المقترح متواضع للغاية مقارنة بالعدد الهائل للنازحين واللاجئين الذي يبلغ نحو عشرة ملايين. كما أن هذا المشروع يحدث إرباكاً بين اللاجئين أنفسهم، ويدفع بهم نحو التعلّق بسراب خلاص فردي، لم ولن يجسّد الحل الممكن لمحنتهم.
السوري بفعل خبرته وتجربته قادر على التكيّف مع الظروف، وتذليل العقبات والصعوبات. وهذا ما لاحظناه في جولاتنا على غالبية المخيمات. وما كان يلفت النظر خصوصاً الحرص الشديد من الأهل والمدرّسين، الذين تحولوا إلى لاجئين في المخيمات، على تعليم الأطفال على رغم الشروط الصعبة المختلفة.
مع ذلك تظل المسافة بين الإمكانيات والحاجات شاسعة، الأمر الذي يراكم المعاناة والصعوبات، بحيث تتحوّل إلى مشكلات صحية وتربوية واجتماعية ونفسية، وإلى الكثير غيرها. فهي مشكلات مزمنة، لا توحي المقترحات المطروحة بخصوص قضايا اللاجئين، والجهود المعتمدة لحلها ، بأي احتمال واقعي. وما يُقدّم في هذا المجال لا يتعدى كونه محاولات من المجتمع الدولي للتكيّف السلبي مع ما يجري في سورية، وهي محاولات تركز على أعراض المشكلة من دون أية مقاربة حقيقية لجوهرها الأساس.
فالصراع في سورية ما زال مفتوحاً على مختلف الاحتمالات، وأعداد اللاجئين في تصاعد مستمر على رغم سائر القيود والصعوبات التي تواجه من يُرغم على اتخاذ القرار بترك داره ولن يكون هناك حل نهائي من دون إحلال السلام، الأمر الذي يبدو بعيد المنال راهناً، على الأقل في المدى المنظور، وذلك استناداً إلى المعطيات الميدانية وتفاعلاتها مع المعادلات الإقليمية والدولية.
ويبقى مطلب مناطق الحظر الجوي لحماية المدنيين سواء في الشمال أم الجنوب، وحتى في الشرق، هو المطلب الأكثر واقعية في الظروف الحالية. فهذه المناطق تستطيع استيعاب اللاجئين المتواجدين حالياً في دول الجوار، خاصة في لبنان والأردن، ويمكن الدفاع عنها براً من قبل فصائل الجيش الحر بعد إعدادها ودعمها بالإمكانيات التي تساعدها على أداء مهامها. كما يمكن للحكومة الموقتة إدارتها عبر تأمين احتياجات المواطنين، وتقديم الخدمات الأساسية لهم؛ وبذلك يتم تعبئة الفراغ، وسد الطريق أمام امتداد القوى الإرهابية من مختلف الجنسيات والتوجهات.
والسؤال الأهم المشروع الذي يطرح نفسه ضمن هذا السياق هو: هل أصبح المجتمع الدولي بعد كل هذا القتل والخراب على استعداد لاتخاذ خطوات تقطع مع تعامله السلبي مع الوضعية السورية، ذاك التعامل الذي يُعد عاملاً أساسياً من العوامل التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه في يومنا هذا؟
بكلام آخر، هل المجتمع الدولي جاهز لمساعدة اللاجئين السوريين من جهة، وتخفيف الضغط عن دول الجوار من جهة ثانية، وتفكيك الحاضنة الاجتماعية للإرهاب وسد المجال الجغرافي الحيوي أمامه من جهة ثالثة؟
إننا لن نأتي بأمر جديد إذا كررنا ما قلناه بمناسبة ومن دونها، بأن سلبية المجتمع الدولي، ووحشية النظام، سيؤديان إلى بروز الإرهاب المتطرف وتناميه؛ وهذا ما حصل فعلاً، وما نواجهه راهناً.
ومن الواضح أن ما حدث في فرنسا مؤخراً، وما قد تواجهه دول أخرى سواء في المنطقة أم في أوروبا، وحتى أستراليا وكندا والولايات المتحدة، يؤكد أن العولمة لم تشمل الرأسمال وحده، بل شملت الإرهاب أيضاً. وما يجري في سورية لن يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة وحدها، بل يهدد الأمن العالمي بأسره، خاصة في ظل التشنج غير المسبوق في المجتمعات الغربية تجاه الإسلام والمسلمين، الأمر الذي تستفيد منه الحركات اليمينية المتطرفة والعنصرية.
وما ظاهرة استهداف المساجد في عدد من البلدان الأوروبية، سوى بداية تنذر بأفدح العواقب، هذا إذا لم تتخذ خطوات جادة فاعلة ضمن إطار استراتيجية شاملة، تتكامل جوانبها الاقتصادية – التنموية، والتربوية، والاجتماعية، إلى جانب الجهود العسكرية الرادعة الضرورية. فمن دون هكذا استراتيجية دولية – إقليمية أساسها الحوار والتفاهم وتبادل المصالح، واحترام تطلعات الشعوب وإنسانية الإنسان بعيداً عن الاستبداد، ستظل الجروح مفتوحة، وتتفاقم المشكلات نحو الأسوأ، بل الأكثر سوءاً، الأمر الذي سيكتوي بناره الجميع.
الحياة _ وطن اف ام