أعاد رئيس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو أمس البوصلة السياسية إلى مكانها الصحيح في خطاب له تعرّض فيه لتداعيات عملية «شارلي إيبدو» على المسلمين في أوروبا والعالم، حين قال إنه حين يتوجه زعماء العالم للمشاركة بمسيرة في عاصمة فلسطين الحرة القدس، حينذ سيعمّ العالم السلام.
جاء ذلك بعد تعرّض اوغلو لانتقادات من زعيم الحركة القومية التركية المعارضة على مشاركته في المسيرة العالمية ضد الإرهاب التي جرت في باريس، بدعوى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شارك فيها أيضا، وهو انتقاد برسم المماحكة السياسية التقليدية، فوجود اوغلو والزعماء العرب الآخرين الذين شاركوا كان ضرورياً بالتأكيد لقطع الطريق على المناورة الإسرائيلية الكبيرة للاستيلاء على المناسبة وتصوير نفسها، مراراً وتكراراً، بصورة الضحيّة، عبر الإتجار بدماء اليهود الأربعة الذين قتلوا خلال الهجوم على محل للأغذية اليهودية يوم الجمعة الماضي.
وبحسب بعض المصادر فإن الحكومة الفرنسية حاولت تجنّب قدوم نتنياهو ولكنّه أصرّ على المجيء والمشاركة و»التدافع» ليظهر في مقدمة المسيرة والزعماء المشاركين، واستغلّ وجوده للإدلاء بالتصريحات الإعلامية حول ضرورة تكاتف الإنسانية مع إسرائيل في «مكافحة التطرّف الإسلامي»، وهي دعوة ترجمتها الفعلية مساندة تل أبيب في بطشها بالفلسطينيين، وتدخلها الإجرامي في كل مكان تصل ذراعها الطويلة إليه، وتجاهل جرائمها التي ترتكبها في كل مناطق احتلالها، وتقبل توسعها الاستيطاني بالتناقض مع كل القرارات الأممية.
نتنياهو اختتم جولته بتسديد سهمين خطيرين إلى الحكومة والشعب الفرنسيين، بدعوته اليهود الفرنسيين إلى الهجرة إلى إسرائيل (وهو ما يعني أن السلطات الفرنسية غير قادرة على حمايتهم من «الإرهاب الإسلامي»)، والثاني هو جلب اليهود الأربعة القتلى لدفنهم في إسرائيل، في إعلاء لشأن الدين على القومية والجنسية، وهما أمران يصبّان، عمليّاً، في طاحونة تأجيج خطاب الصراعات الدينية، وهو الخطاب المركزيّ الذي يتغذّى عليه الإرهاب، والذي تدّعي إسرائيل محاربته.
فرنسا الرسميّة، ردّت على خلط الأوراق الإسرائيلي بضعف مشهود، وهو ما سيخسرها الكثير من مصداقيتها، فرئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس فيما يشبه الانحناء لمقولات نتنياهو، قال إن «فرنسا بدون يهودها ليست فرنسا»، فيما قامت وزيرة البيئة الفرنسية سيغولين روايال بالسفر إلى إسرائيل لتمثيل بلادها في مراسم تشييع اليهود القتلى حيث أكدت أن «معاداة السامية لا مكان لها في فرنسا»، وهو خطاب مبتور وناقص وركيك لأنه يتجاهل وجود عداء أكبر بكثير في فرنسا للإسلام والمسلمين.
وفيما عبأت الحكومة الفرنسية قواتها الأمنية والعسكرية وأمنت انتشار 4700 جندي وشرطي لحماية المعابد والمدارس والهيئات اليهودية، في الوقت الذي سجّلت فيه وكالات الأنباء تعرّض المسلمين إلى 54 اعتداء (بينها 21 حالة إطلاق رصاص) ضدّهم منذ هجوم «شارلي إيبدو»، والسؤال هنا: من يحمي هؤلاء، ولماذا لا تعلن الحكومة الفرنسية أنها ستحمي المسلمين، قانونياً، وفعلياً، من أي اعتداء ضدهم؟
عبد الله ذكري، عضو المجلس الإسلامي في فرنسا أشار في تصريح لوكالة أنباء أن «الحماية المخصصة للمسلمين غير كافية في هذه الفترة»، بما في ذلك حماية المسجد الكبير في باريس الذي هو الممثل الرمزي للمسلمين، وهو أمر يبعث على الشكّ في منطق وأولويات سلطات باريس السياسية والأمنية فما تقوم به قد يعتبره اليمين المتطرف الفرنسي دعوة مفتوحة للانتقام من المسلمين، كما سيفهمه العالم الإسلامي تواطؤاً مع الاستثمار الإسرائيلي المغشوش في الهجوم الإرهابي على «شارلي إيبدو»، ودخولاً، في الباطن، في حلف مسيحيّ – يهوديّ ضد الإسلام، وهو منطق الإرهابيين نفسه.
كل ذلك يعيد الساعة إلى الصفر والتساؤلات إلى بدايتها: من الذي يصنع الإرهاب حقّاً؟
القدس العربي _ وطن اف ام