لو عدنا إلى يوم «غزوة شارلي إيبدو»، ويجب أن نعود، لوجدنا أن الإسرائيليين ومعهم نظام بشار الأسد كانوا ينتظرونها ربما على أحرّ من الجمر، وهذا لا يعني ويجب ألا يعني الاستعانة بـ«نظرية المؤامرة» للتعاطي مع هذا الذي جرى بأثر رجعي، فالحقيقة أن مما لا شك فيه إطلاقا أن الذين قاموا بهذه «الغزوة»، غير المباركة، ينتمون إلى «داعش» و«النصرة» و«القاعدة»، ولكن أي «داعش» وأي «نصرة» وأي «قاعدة» وقد «اختلط الحابل بالنابل» وغدا بإمكان أي إرهابي وأي جهاز استخباري أن ينفذ عملية كهذه العملية ويرتكب جريمة كهذه الجريمة ويعلن مسؤولية أحد هذه التنظيمات الإرهابية عنها؟
لقد أصبح من الصعب حصر أسماء وأعداد هذه التنظيمات الإرهابية، التي بعد مقتل أسامة بن لادن واختفاء أيمن الظواهري في «غيبة»، غير معروف حتى الآن ما إذا كانت «كبرى» أم «صغرى»، وقبل ذلك بعد مقتل «أبو مصعب الزرقاوي»، قد تعرضت لحالات انشطار كالانشطارات الأميبية وأصبح بإمكان أي فرد أو مجموعة صغيرة وأي جهاز استخباري تنفيذ أي عملية إرهابية والاستعانة بوسائل الاتصال الاجتماعي (المواقع الإلكترونية) للإعلان أن المنفذ هو «داعش» أو أي من العناوين الأخرى الرائجة والمستخدمة مع عدم معرفة الحقيقة وتحديد المسؤولية بصورة مؤكدة ودقيقة.
هناك الآن «القاعدة الأم» التي أنجبت كل هذه الانشطارات التنظيمية التي تشبه الانشطارات الأميبية، ثم هناك «داعش» و«النصرة» و«خراسان» و«أنصار الشريعة» و«أنصار بيت المقدس» و«بوكو حرام»، وهناك أسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، والمعروف أنه بعد «غزوة شارلي إيبدو» قد بدأ تداول، وعلى نطاق واسع، مصطلح «الذئاب المنفردة»، حيث إنه غدا بإمكان أي معتوه وأي تابع لأي جهاز استخباري أن يضرب ضربة كضربة السابع من يناير (كانون الثاني) الحالي في العاصمة الفرنسية ويلصقها بواحد من هذه التنظيمات الآنفة الذكر أو أكثر، وحيث لم يثبت حتى الآن أي منها المسؤول وبالتحديد عما جرى وحدث.
كان وزير العدل الأميركي إيرك هولدر، الذي حضر اجتماعا طارئا في باريس في اليوم الثاني لـ«غزوة شارلي إيبدو»، حضره وزراء الداخلية ووزراء العدل الأوروبيون، قد أطلق تصريحا خلال هذا الاجتماع قال فيه: «إنه من غير الممكن بعد القول إن (القاعدة) هي التي نفذت هذه العملية الإرهابية». وحقيقة، إنه من الصعب التأكد من أن أيا من البيانات التي صدرت باسم «داعش» و«القاعدة» هو الصحيح، فالوسيلة هي وسائل الاتصال الاجتماعي التي بإمكان أي مدّعٍ استخدامها لإعلان مسؤولية هذا التنظيم أو ذاك من التنظيمات الإرهابية المعروفة وغير المعروفة عن هذه العملية أو أي عملية أخرى.
والملاحظ، وهذا هو المهم، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد بادر فورا، حتى قبل أن يقول الفرنسيون أي شيء رسمي عن «شارلي إيبدو» هذه وحتى قبل أن يذهب إلى باريس، إلى دعوة اليهود الفرنسيين الذين يقدر عددهم بنحو 600 ألف للهجرة العاجلة إلى ما سماه «وطنهم إسرائيل» الذي قال إنه لا أمن ولا أمان لهم إلا فيه!!
وهنا ودون الوقوع أيضا في براثن ما يسمى نظرية «المؤامرة» فإنه لا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل باتت بحاجة إلى موجات هجرة جديدة بعدما اتسع نطاق الهجرة المضادة، ولهذا فقد بادر نتنياهو وبمجرد وصول نبأ عملية السابع من يناير إلى دعوة الـ600 ألف يهودي فرنسي إلى المجيء إلى «وطنهم»!! الذي «لا أمن ولا أمان لهم إلا فيه». وهذا وكما هو معروف قد أغضب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وجعله يعتبر ذلك تدخلا في الشؤون الداخلية الفرنسية، وذلك على اعتبار أن هؤلاء فرنسيون بغض النظر عن ديانتهم انطلاقا من أن فرنسا دولة علمانية «لائكية».
إن هذه مسألة، أما المسألة الأخرى، التي لا بد من التطرق إليها والتوقف عندها بكل جدية ولكن بعيدا عن «نظرية المؤامرة» التي يلجأ إليها البعض لتسويغ وتسويق أمور لا يمكن تسويغها أو تسويقها، فهي أن إسرائيل، بعد حرب غزة الأخيرة وبعد ارتكابها المزيد من الجرائم التي ارتكبتها في الضفة الغربية، قد فقدت إن لم يكن كل فمعظم رصيدها السابق لدى الرأي العام الأوروبي، والدليل هو اعتراف «برلمانات» عدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية المستقلة، وقد أصبحت بحاجة بل وبأشد الحاجة إلى ضربة كضربة «شارلي إيبدو» لتثير كل هذه العاصفة الهوجاء ضد العرب والمسلمين التي تجسدت في أبشع صورها في مظاهرات ألمانيا ومظاهرات بعض الدول الإسكندنافية.
لقد حاول المستشار الألماني وحاول الرئيس الفرنسي تطويق الموقف ومواجهة هذا الـ«تسونامي» المعادي للإسلام والمسلمين والعرب الذي زادته هيجانا «غزوة شارلي إيبدو» الإرهابية، التي لا يجوز تبريرها وبأي شكل من الأشكال، لكن إذا أردنا الحقيقة فإنه لا بد من القول: «لقد سبق السيف العذل»، فما حصل قد حصل، ولقد حقق الإسرائيليون ما أرادوه، ويقينا أنه لا بد من بذل جهود جدية من قبل الدول العربية والإسلامية لمحو آثار هذه الجريمة النكراء التي هي عمل إرهابي مدان بغض النظر عما إذا كان ارتكبه «داعش» أو ارتكبته «القاعدة» أو أحد أجهزة استخبارات إحدى الدول المستفيدة.
ثم إن ما يجب أخذه بعين الاعتبار والتوقف عنده مليا ونحن بصدد العودة للحديث عن «غزوة شارلي إيبدو» هذه هو أن هناك معلومات، وهي معلومات مؤكدة وصحيحة، أن نظام بشار الأسد قد بادر وفور وقوع هذه الجريمة إلى الاتصال بالفرنسيين، عبر قنوات مختلفة متعددة، مبديا استعداده للتعاون معهم لكشف الجهة الإرهابية التي ارتكبتها «ولكن بشرط عودة السفارة الفرنسية إلى دمشق وعودة السفارة السورية إلى باريس، وأيضا بشرط عودة التنسيق إلى ما كان عليه بين أجهزة البلدين الأمنية». وحقيقة، إن هذا النظام، أي نظام بشار الأسد، كان قد حاول مبكرا وهو لا يزال يحاول فرض نفسه على التحالف الدولي المنخرط في حرب ضروس مع «داعش» و«النصرة» و«خراسان» وباقي التنظيمات الإرهابية بحجة أنه معني بمواجهة هذه التنظيمات الإرهابية.
كان نظام بشار الأسد قد لجأ فور انطلاق ثورة الشعب السوري في مارس (آذار) عام 2011 إلى إطلاق سراح كل المجموعات الإرهابية التي كانت معتقلة في سجونه والتي كان استخدمها في العراق بهدف ما كان يعتبره إغراقا للأميركيين في أوحال بلاد الرافدين، والمفترض أن المعروف أن هذه المجموعات هي التي شكلت نواة «داعش» ونواة «النصرة»، وأنه بقيت تربط بعضها قنوات تنسيق واتصال بالأجهزة الأمنية السورية، ولهذا فإن هذا النظام قد سارع فور وقوع جريمة السابع من يناير إلى عرض خدماته على الفرنسيين، وهو كان قد عرض مثل هذه الخدمات على الأميركيين وأيضا على الإسرائيليين الذين يبدو أنهم قبلوها، والدليل هو أنهم، من خلال «لوبي سوري» يتزعمه مارتن إنديك، مَن غيّر اتجاهات هذه الإدارة الأميركية إزاء الأزمة السورية وجعل باراك أوباما يتخلى عن كل مواقفه التصعيدية السابقة ويلجأ إلى هذه المواقف المتذبذبة والمترددة وجعله أيضا يواصل التمسك بأن إيران تشكل رقما رئيسيا في المعادلة الشرق أوسطية.
إنها ليست «نظرية المؤامرة» ولكنها حقائق يجب أن تقال، وأُولى هذه الحقائق أنه أصبح بإمكان أي كان أن يمارس الإرهاب باسم «داعش» و«القاعدة» و«النصرة»، وثانيتها أن إسرائيل هي الأكثر استفادة من «غزوة شارلي إيبدو»، وأن نظام بشار الأسد قد حاول وهو لا يزال يحاول الاستفادة منها لبيع بضاعته المخابراتية على الفرنسيين وعلى الأميركيين وعلى غيرهم!!
الشرق الأوسط – وطن اف ام