أظهرت أرقام وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، لم يخسر حتى الآن سوى 700 كلم مربع من الأراضي في العراق، أي 1% فقط من 55 ألف كلم مربع سيطر عليها عام 2014، وأقر المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، بـ”أنها نسبة ضئيلة”. وعلى الرغم من تفاؤل خبراء وسياسيين أميركيين وغربيين بأن تتمكن الولايات المتحدة، العام الحالي أو العام المقبل، من استئصال التنظيم من العراق، إلاّ أنّ المسار الراهن للحرب عليه لا يعزز هذه القناعات، بل يناقضها تماماً، في سورية والعراق، بل ربما على النقيض من ذلك ستشهد الأعوام المقبلة تمدداً وانتشاراً لهذا “النموذج” وشقيقاته من فروع القاعدة، تحديداً في المنطقة العربية.
هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة لا تملك القدرة العسكرية لإبادة أغلب قدرات التنظيم، فعليّاً، لكن هذا لا يعني، على المدى البعيد، أنّه غير قادر على الصعود، مرّة أخرى، وتجديد نفسه، كما فعل هو نفسه في عام 2011، بعدما تراجع وانحسر في الأعوام الثلاثة السابقة على ذلك، تحت وطأة الصحوات العشائرية وضرباتها، وهو ما يحدث اليوم، أيضاً، مع حركة طالبان الأفغانية التي قضت الولايات المتحدة على حكمها في حرب 2002، لكنها عادت، اليوم، لتصبح الرقم الأصعب في البلاد، مع حرص الولايات المتحدة على الخروج من هناك بأيّ وسيلةٍ كانت. معضلة الحرب الأميركية الراهنة على “داعش” أنّها تقوم على جملة كبيرة من التناقضات والمعضلات، تتأسس، في جوهرها، على سؤال النفوذ الإيراني، والشراكة مع الأنظمة السلطوية العربية التي هي الأب الشرعي لصعود هذه الحركات! وإذا تجاوزنا داء السلطوية، بوصفه السبب الأول المنتج للإرهاب، ووقفنا عند حدود الهلال العراقي، السوري واللبناني، فإنّ المفارقة الجوهرية تتمثل في سياسات الرئيس، باراك أوباما نفسه، الذي ربط بين صعود التنظيم والأزمة السنية في العراق وسورية، وسياسات بشار الأسد ونوري المالكي، وأكّدت إدارته على أنّ السلاح الفتّاك لهزيمة داعش هم السنة أنفسهم؛ إلاّ أنّ هذه الرؤية المفتاحية والجوهرية في مواجهة داعش تبخّرت تماماً، ليحل محلها هاجس أساسي، هو هزيمة التنظيم عسكريّاً، مما قاد إدارة أوباما نفسها إلى الدخول في تحالف وشراكة ضمنية، غير مباشرة، مع الإيرانيين، فتغاضت تماماً عن الدور الإيراني المتغلغل في العراق وسورية، ولاحقاً اليمن، فضلاً عن لبنان. تكمن المفارقة الرئيسة هنا؛ فالسبب الجوهري لأزمة السنة ومعاناتهم (في هذه المجتمعات) تتمثل في أنّهم يخوضون حرباً وجودية هوياتية مع النفوذ الإيراني المتلبس بالطابع الطائفي؛ فكيف يمكن فك الاشتباك بين السنة وداعش، بينما ترى المجتمعات السنية تحولاً كبيراً في الموقف الأميركي من إيران، يصل إلى درجة التعاون والتنسيق مع المليشيات الشيعية التي لا تقل تطرفاً ولا طائفية عن تنظيم داعش نفسه، فيما أصبحت القيادات العسكرية الإيرانية، مع قطاعات من الحرس الثوري الإيراني، تدير المعركة بصورة تكاد تكون معلنة في العراق وسورية. في المحصلة، الطرف المستفيد من الحرب الراهنة هي إيران مع حلفائها، نظام بشار الأسد والقوى السياسية الشيعية في بغداد، ولحقهم “أنصار الله” في اليمن، بينما تقرّ صحف أميركية ومحللون وخبراء بأنّ التحول الأميركي لا يقف عند حدود محاولة ترسيم صفقة إقليمية مع إيران، بل حتى تجاه بشار الأسد الذي لم يعد إسقاطه وعزله شرطاً أميركياً لمستقبل سورية، ولا أولوية لدى إدارة أوباما في سورية. ما أتت به المتغيرات الجديدة في الموقف الأميركي والحرب الراهنة، هو مزيد من التعقيد على المنطقة العربية، فالمسار الراهن يعيد ترسيم دور السنة في العراق وسورية، بوصفهم “صحوات عشائرية” لا أكثر، مع وعود أميركية غير مضمونة، ولا مكفولة، بتمكين سنة العراق من إيجاد قدر من الحكم الذاتي المحصّن بتأسيس حرس وطني في المحافظات المختلفة، الذي يُفترض، ضمنيّاً، أن يكون المعادل الموضوعي للجيش العراقي والمؤسسات الأمنية التي تقع تحت قبضة إيران والقوى الشيعية.
لا تقل فكرة الحرس الوطني سوءاً عن الصحوات، وهي ليست حلاًّ حقيقيّاً للأزمة العراقية، بقدر ما أنّها تجذّر الانقسام وتعززه، إذ تقوم على “تطييف” القوى العسكرية والأمنية، لكن حتى هذه الفكرة تواجه بتأخير ومماطلة من الحكومة العراقية الحالية، وتعذّرت بتأجيلها إلى العام المقبل، بدعوى عدم وجود مخصصات في الموازنة، بينما تصرف أموال هائلة على دعم القوات العراقية في مواجهة التنظيم. حتى المعارضة السورية المعتدلة التي يجري الإعداد لدعمها وتدريبها في سورية، فكرة ضعيفة وهلامية، فضلاً أنّ المطلوب منها أن تكون جاهزة لقتال تنظيمي داعش والنصرة، وليس جيش الأسد، حتى لا تدخل الإدارة الأميركية في صدام مع إيران وحلفائها هناك. وإذا كنا نرى بأنّ تنظيم داعش ليس “ابن عيشة” على المدى البعيد، فهو يحمل بذور نهايته في داخله، لما يحمله من أيديولوجيا متطرفة غير قابلة للحياة والتصالح مع المستقبل، فإنّ المفارقة المقابلة تبدو، اليوم، في أنّ السياسات الأميركية الراهنة في الحرب على الإرهاب هي التي تؤدي إلى تفريخ الإرهابيين والمتطرفين، تمثل سبباً إضافيّاً وعاملاً حيويّاً في تعزيز هذه المنظمات المتطرفة على كلا الجانبين، ومدّها بمادة التجنيد والتعبئة والدعاية.
العربي الجديد – وطن اف ام