رغم مرارة الأيام الحالية في سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على ثلث أراض العراق، وما تركه ذلك من آثار نفسية سلبية على الحالة الوطنية العراقية، إلا أن هناك نتائج ومعطيات استراتيجية وسياسية تشكل مقدمات لتحولات كبيرة في المنطقة، بعضها كان عبارة عن تكهنات وسيناريوهات افتراضية على مستوى العراق والمنطقة. فتنظيم «داعش» ليس نتاجاً ذاتيا هبط من الفضاء، وأسس في يوم وليلة “دولة” بجميع عناصر الدولة التقليدية ما عدا الاعتراف الدولي، تضطر أميركا لاستدعاء تحالف ضم سبعين دولة لمحاربته على الأراضي العراقية.
هناك ظواهر سياسية كثيرة تستدعي الانتباه، وخيوط مبعثرة تحتاج إلى تجميع، وأجزاء تبدو متناقضة في لوحة المشهد. ولعل الغرق في المشهد الدرامي ليوميات داعش في العراق يخفي الكثير مما يعّد خلف الأبواب المغلقة يتعلق بمصير العراق. وفي جميع الأحوال فإنها مخططات تسير باتجاه معاكس لتطلعات أبنائه.
ليس أمراً عابراً أن الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي عرف بنقده لسياسة سلفه في حربي أفغانستان والعراق، يتولى إدارة الحرب على داعش بتعبئة عالمية أعطت هذا التنظيم هالة مضافة بل ومعززة للصدمة الميدانية التي تحققت في العاشر من يونيو 2014 بالموصل. وقبل أن تكون سياسة أوباما مقدمات للمزج بينها وبين سياسات الجمهوريين المتوقعة بعد نهاية ولاية أوباما، فقد قدم “داعش” خدمة لأوباما في تسهيل مهمة توافقاته مع إيران ومنحها صكوك النفوذ الجديدة في العراق والمنطقة مقابل الملف النووي.
لقد قدم تنظيم داعش مكاسب استراتيجية وسياسية للكثير ممن كانوا يبحثون عن أدوار أو أن تكون لأدوارهم مكانة على جميع المستويات الإقليمية والمحلية العراقية.
فقد قدم داعش دفعة كبيرة للعملية السياسية العراقية التي وصلت حافة الهاوية، ولحزب الدعوة الإسلامي، حيث لم يقفل دورة حكمه الفاشلة لثماني سنوات عبر رئيسه نوري المالكي، وإنما جددها باسم جديد هو حيدر العبادي ابن حزب الدعوة، لكي يصبح رمزاً للحرب على داعش ولتطوى صفحة الانتفاضة الشعبية لستّ محافظات عراقية تحت ظلال دخان هذه الحرب. ورغم ذلك فإن فرصة العبادي تاريخية من خلال موقعه الجديد ليلعب دوراً وطنياً واضحاً. وهناك هامشيون كثر برزوا مجددا من سياسيي الصدفة ممن تصدروا مشهد كارثة العرب السنة منذ عام 2003 ولحد اليوم، وحصلوا على ما حصلوا عليه من مغانم شخصية، ومعهم أسماء ذات مصالح ذاتية يبحثون عن أدوار في زمن التردي يتصدرون شاشات الفضائيات، ويحاولون بطرق رخيصة إثبات براءتهم من أبناء جلدتهم العرب السنة أمام أولي الأمر الجدد الذين يحتقرونهم.
لقد كان ينتظرهم مصير الخروج عن طريق الصدارة السياسية والإعلامية إلى الأرصفة والمقاهي والدواوين المهملة وفنادق الدرجة الثالثة، لكنهم جددوا لعبة المتاجرة بدماء أبناء جلدتهم، وليصبح داعش لعبة المقامرة الجديدة بمصير هذه الطائفة المستباحة.
وفي ظل الحرب على داعش نشطت المليشيات الشيعية التي أفل نجمها في عامي 2008 و2009، وأصبحت تدير اليوم العمليات العسكرية ضد داعش وتنفذ مشروعها الاستراتيجي المرتبط بطهران بشكل يسير، وبأدوات سحق جديدة.
المكاسب الكبرى حصل عليها الأكراد بفضل داعش، فقد نظمت العمليات العسكرية الكردية بمعزل عن بغداد، وبتنسيق مباشر مع الأميركان الذين يمتلكون قواعد عسكرية واستخبارية عالية المستوى في إقليم كردستان. وبفضل الحرب على داعش تم فك العقدة الدستورية التي وضعها الأكراد في وثيقة عام 2005 بخصوص المناطق المتنازع عليها. وسيطروا على جميع تلك المناطق، وأصبحت جغرافيتهم الجديدة ضعف الجغرافية القديمة، وبذلك انتقلوا إلى مرحلة التأسيس لدولتهم المستقلة ذات الثروات الهائلة خاصة في كركوك وهي ثروة شعب العراق.
إقليمياً الرابح الأكبر من داعش هي إيران، لقد تحقق لها منذ احتلال 2003 وخصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة ما لم تتمكن من تحقيقه خلال خمس وثلاثين عاماً في مجال ولاية الفقيه “تصدير الثورة” الذي تزعمه خميني وحالياً خامنئي.
ففي ظل الحرب على داعش تكثف الوجود الميداني لإيران في ظل مكاسب استراتيجية جديدة، لأن قاعدة العراق هي التي فتحت أبواب دمشق، وعززت الهيمنة على لبنان، وانطلقت في منطقة الجزيرة والخليج العربي. بعد وجودها العسكري والاستخباري والسياسي في العراق فرضت إيران نفوذها ولوت ذراع أميركا. ورغم ما يشاع عن أدوار تركية أو سعودية، فقد أصبح مركز الثقل في طهران، وانتقلت التحالفات إلى مرحلة تقاسم المصالح والخارطة، وأصبحت مخاوف إسرائيل في الحفاظ على وجودها مجرد ذكرى من التاريخ.
إن الخاسر الوحيد من الحرب على داعش هو شعب العراق خصوصاً في المحافظات العربية السنية الست، حيث شرّد أبناؤها من بيوتهم في أقسى حالات النزوح الداخلي، واحتمالات التغيير الديمغرافي في تلك المحافظات. في وقت تلاحق فيه تنظيمات داعش الضباط السابقين وتعدم بعضهم وتفجّر منازلهم، خصوصاً أولئك الذين يستعدون للدخول في مشروع “الحرس الوطني”. وفي ظل تشجيع حكومي محلي وأميركي على الخصومة بين رموز عشائرية خاصة داخل الأنبار، وتصعيد عمليات التصفيات الجسدية ومطاردة عناصر الحشد الشعبي الذين سبق وأن قاوموا الاحتلال الأميركي في العراق.
وستكشف الأيام المقبلة كيف استخدمت حرب داعش غطاء لتمرير مخططات تفتيت العراق وسوريا، وتأجيج الحروب الطائفية في المنطقة.
العرب اللندنية _ وطن اف ام