أن تكون مسلما اليوم في أوروبا ليس أمرا بسيطا، إذ عليك أن تتحمل تبعات كل ما يمارس من إرهاب وتخلف وتصلب باسم الإسلام. وأن تثبت في كل لحظة أنك لست قاتلا ولا مجرما، وأن تتحمل تكلس النخب الإسلامية وغيرِها في إيجاد سبل وحلول يمكنها أن تجعل من المسلم كغيره من مكونات المجتمعات الأوروبية، يتحدد بمواطنته وليس بدينه. لأن كلمة مسلم اليوم أصبحت أمرا مخيفا.
لهذا يجب أولا على أن نتفق أن أوروبا هي في عز أزماتها الخطيرة تاريخيا، والشبيهة بتلك التي سبقت الحرب العالمية الثانية والتي كان من نتائجها الهولوكست المقيت. الأزمات تولد أمراضا اجتماعية متعددة تصعب أحيانا السيطرة عليها. وتعيد إلى الواجهة بعض الأمراض الاجتماعية القديمة التي نتصور في لحظة من لحظات الاستقرار أنها انتهت، كالعرقية، والعنصرية ومعاداة السامية، والنظر إلى الأجنبي نظرة الريبة بوصفه سارقا لمناصب عمل السكان الأصليين، والخوف من ثقافة الآخر التي لن تكون إلا قاتلة للعناصر الثقافية المحلية، واستيقاظ أمراض الهويات لدرجة أن يتساءل المرء أين كانت هذه الضغائن كلها متخفية.
وهل يمكن أن يكون الإنسان بكل هذه الوحشية تجاه أناس اضطرت سبل الحياة القاسية أجدادَهم من العرب والآسيويين والأفارقة المسلمين، إلى القدوم نحو إلدورادو أوروبي، سرعان ما تكشف للأجيال المتعاقبة، التي ولدت في أوروبا، وحملت جنسياتها، أنه ليس كما تخيلوه، وحلموا به. بكل تأكيد ان ما يحدث اليوم في أوروبا هو بالضرورة وجه واحد من أوجه الأزمة المتعددة الجوانب. المسلمون ليسوا بخير في أوروبا مهما كانت ظروف العيش أفضل، إذ تتوفر لهم الكثير من الحقوق الأساسية، غير الموجودة في بلدان أجدادهم الأصلية. إلى وقت قريب، كان الاعتقاد بأن تجديد الإسلام لن يتأتى إلا على أيدي هذه النخب المسلمة التي ولدت كبرت وتعلمت بشكل عقلاني، من وراء البحار، لأنها في عمق فكر متحرر من سلسلة القيود المفروضة في البلدان الأصلية. فهم يعيشون في بلدان متقدمة، في ظل ديمقراطية تتيح لهم، بالوسائل المتطورة والعلمية التي تملكها، فرصة العمل الجاد والمتخصص. من مزايا هذه النخب الجديدة أنها مجردة من المسبقات، كما يفترض على الأقل، وتملك عينا جديدة على الدين، الذي يشكل جزءا من عمقها الذاتي والروحي، وأخرى على الحداثة والديمقراطية والمواطنة، التي تعيش في غمارها، مما يجبرها على خلق توازنات داخلية تمنحها فرصة أن تكون في صلب دينها الإسلامي، وفي الوقت نفسه مجددة. لكن للأسف، لا شيء من هذا حدث. فقد ظلت هذه النخب مجرد مشروع قيد التكوين في غياب دياسبورا مسلمة رمزية قوية وقادرة على الفعل الثقافي. فالغالبية الكبيرة من المهاجرين المسلمين الأوائل، هم عمال أو أبناء عمال، ومن شعوب وقوميات مختلفة. قليلها المندمج والناجح، منضو تحت خطابات الهيمنة، وبالتالي فهو عاجز عن إعطاء دينامكية حقيقية لأفكاره. وقليلا ما يلتفتون إلى مشكلات المجموعات البشرية التي ينتمون لها من حيث الانتساب الوطني والديني على الأقل. الانتماء إلى المجموعة كان يُفترض أن يمنحهم فرصة التفكير جليا في كيفيات تطوير أفكارهم وعيش قناعاتهم الدينية التي تضمنها قوانين الدول الأوروبية، ويعملون في الوقت نفسه جادين للتفكير في بلورة سلسلة من الأفكار الحية لحل ما يصطدمون به من معوقات ثقافية ومعضلات حداثية وقلق وجودي وقوانين الدولة العلمانية التي هم منها وفيها على الرغم من تناقضها مع معتقدهم. يحتاجون إلى الكثير من التفكير والتبصر في حل حقيقي لما يعترضهم من صعوبات من أجل حسم التناقض وخلق توليف ممكن وجاد بين القناعات الدينية التي عليها أن تخرج من نظرتها الازدواجية، والعلمانية بوصفها خيارات أوروبية متأتية من تجربة مريرة مع الكنيسة التي دمرت كل تفكير في القرون الوسطى. بدون هذا التوليف العقلاني والمنتج، ستحدث، إن آجلا أو عاجلا، اختلالات تعمق الشقة بين الإيمان بوصفه حالة تهم الفرد بالدرجة الأولى، والفعل الاجتماعي الذي حرر المبادرات الحية عبر التاريخ الأوروبي. لهذا، من الضروري على المجموعات الدينية مسيحية كانت أو مسلمة، أو يهودية، أو بوذية أو غيرها، أن تنشئ الجسور القوية التي توصلها بالآخر وبالأنا المختلفة. وهذا الفعل الحيوي الخلاق والحداثي في مراميه الإنسانية، لا تحله إلا النخب الخارجة من صلب هذه الثقافات المحلية القديمة من جهة، وهي ثمرة تكون أوروبي، بل هي نتاجه في النهاية. يهود أوروبا مثلا، ولأسباب تاريخية يطول شرحها هنا، حلوا هذه المشكلة بتحديد خياراتهم التاريخية بالانتساب إلى العصر، وحل المشكلات التي تعترضهم في الممارسة الدينية والمدنية، لأنهم في جوهرهم يسيرون بمنطق الأقليات أي البحث الدائم عن الحماية، مما ولد لديهم دياسبورا يهودية، مفكرة وذكية، لها مرجعها، منضوية تحت مركزية دينية تأمر فيسمع لها وتُطاع.
مثلا المجلس التمثيلي للهيئات اليهودية في فرنسا
Conseil représentatif des institutions juives de France Crif
على العكس من المسلمين الذين فشلت كل الهيئات الدينية التي كانت تهدف إلى توحيدهم، في جمع صفوفهم الممزقة، في فرنسا. حتى CFCM Le Conseil français du culte musulman المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، لم يستطع أن يكون جامعا للصوت الفرنسي أو الأوروبي الإسلامي الموحد. الأسباب كثيرة ومتعددة. فالإسلام إذا اشترك في قيمه العليا في كل أنحاء المعمورة، تبدأ الخلافات من منطلق المرجعيات التي ينتمي لها هذا الدين في أوروبا. هناك الإسلام المغاربي، الإسلام السعودي، الإسلام التركي، الإسلام الإيراني، الإسلام الآسيوي وغيرها من التنميطات التي لا شيء يفسر وجودها إلا من خلال المرجعيات التمويلية والمسندات الآيديولوجية بين إسلام سني وإسلام شيعي، وبين إسلام مالكي وآخر حنبلي، وغيرها، كلها جعلت من هذه الهيئة الإسلامية مستحيلة التأثير، وعاجزة باستمرار عن تقديم المقترحات الفعالة. ما الذي يجمع بين المسلم العربي والصيني والإندونيسي والتركي والسنغالي وغيرهم لإنشاء فكرة موحدة حول المعطى الإسلامي؟ وهو ما أدى إلى تمزق وتوزع هذه النخب في أوروبا ومنعها من التكون الفعلي والعمل على تجديد الإسلام من خلال معاشها في أوروبا. ظلت رهينة إسلام الجهة الممولة أكثر من انتسابها إلى المجتمع الأوروبي الذي ولدت وكبرت، وتثقفت وتعلمت فيه. النخب الإسلامية الموجودة حاليا في فرنسا، ضعيفة سياسيا، وثقافيا ولا تحمل أية إستراتيجية للخروج من حالة التشتت. مع أنه عليها أن تحل الإشكال المركزي الذي يرهقها: أن تعيش قناعاتها الإسلامية براحة، وتساهم بقوة في الحداثة والفعل التنويري العالمي. أي أن لا تظل على هامش العصر بحجة الإقصاء. المطالبة بالحقوق تعني بالضرورة انتساب المسلم كليا إلى أرض منحته الكثير، بدون أن يعني ذلك تنصله عن جزء من ثقافته وتاريخه وتاريخ أجداده. أمر يبدو اليوم شبه مستحيل، فهو يحتاج إلى علاقات أخرى غير تلك المتسيدة في ظل مناخ الإرهاب والشكوك والريبة. أن تكون مسلما اليوم في أوروبا، عليك أن تتحمل كل هذه الإخفاقات وفشلها المريع وهضمها، والخروج من حطامها بإمكانية تنويرية إنسانية وعالمية.
القدس العربي _ وطن اف ام