مقالات

فاطمة ياسين : شتاء المبادرات السورية

الجو بارد جداً، ولأول مرة، يتصدر الرقم صفر تقرير الموت اليومي في سورية، والفضل طبعاً للحراة المنخفضة، فالسبابة المتيبسة لا تقوى على الانحناء أكثر لتعصر الزناد. البرودة التي جمدت الرصاص وقفت متفرجة على سيل المبادرات التي تدحرجت ككرة ثلج. روسيا، بوصفها لاعباً أساسياً، وطرفاً فعالاً يحّرض الإعلام، لينفخ في مبادرته التي أطلق عليها اسم “منتدى موسكو”، حتى تكاد أن تتحول إلى منطاد ضخم: اجتماعات ودعوات وتسخين شاشات الفضائيات، وكأن تصنيع الحل النهائي المناسب للجميع بدأ بالفعل، ولم يبق إلا أخذ القياسات، ومن ثم التفصيل.

عندما تدعو موسكو “من تراه مناسباً” للحضور، فهي تعرف أن بعضهم لا يمتلك خياراً غير الحضور، وآخرين ليس لهم إلا الرفض، وكأن الحل السوري كائن ينتمي إلى حساب ثنائي لا يقبل إلا إحدى نتيجتين، “ترو” أو “فولس”. وليبرهن بوتين بأن “يده فوق أيديهم”، راح يتعامل مع المعارضة بالمفرق، فهو لا يعترف بأي كيان معارض، ويوجه دعواته لــ”شخصيات”؛ محاولاً عزلها، وربما كسبها، وعلى الأغلب الاستفراد بها، ولاحقاً: التهامها. قدم المبعوث الأممي اقتراحاً يناسب المناخ القطبي، فبدا متأثراً بالمنخفضات التي هبطت على المنطقة. اختار دي مستورا أكثر اللحظات برودةً، ليقترح تجميد خطوط القتال في حلب، مستوحياً قاعدة يتبناها القانون، عندما يكون عاجزاً عن الفصل بين المتنازعين تقول “يبقى الحال على ما هو عليه”، وتجميد الأوضاع يخلق واقعاً مختلفاً، ويفرض شرعية على كل الأطراف، وتصبح خطوط التماس المجمدة خطوطاً جغرافية، وربما خطوطَ تصدّع وطني جديد، تؤجل المعركة ولا تلغيها، وقد تقسمها إلى معارك صغيرة محولة الميليشيات على طرفي الخطوط الجامدة إلى وحدات جمارك، عملها الرئيسي الجباية من المارين، وتحصيل الضرائب على البضائع! إذاً، الحل لا يوقف القتل، ولكن يقسطه، ويمد في عمر النزيف إلى أجل غير مسمى. أما المبادرة التي تظهر من وراء غطاء السوليفان الشفاف، مصرية، لا يظهر منها إلا الشائعات، فتبدو كمسلسل غامض طويل الحلقات. الساسة المصريون أصبح عملهم الرئيسي، قبل حل هموم مصر، شرح مقولات السيسي وخطاباته وتحركاته، فالتهافت السياسي المصري يصب في مصلحة الرئيس الذي تحول إلى كل شيء في البلاد. وعلى الرغم من الحجم الهائل لكلمة “مبادرة مصرية”، فإنك لا تكاد تشعر بوجودها، كأنها مجرد فبركة صحفي قادم من “الأهرام”، أو حلم لسياسي مبتدئ. حديث من هذا النوع يصب في مصلحة الرئاسة السورية، أكثر ما يفيد الشعب السوري، فآخر ما يحتاجه المواطن المسكين موضوع جدال جديد لا يقدم ولا يؤخر. مبادرة بشار الأسد أطلقها منذ اليوم الأول للانتفاضة، وأكدها ليلة رأس السنة من خلف المتراس، منقولة من جبهة الجولان إلى جبهة جوبر، مبادرة لا تكترث لأوضاع المناخ، بل تعتمد على الجنود الذين ربت على أكتافهم، وهم يصوبون بنادقهم إلى حارة من حارات جوبر، مع أن الشريط الذي يحتله النظام، ويصل دمشق باللاذقية، يزداد ضيقاً. يعتمد النظام على قاعدة مالية في إيران، وقاعدة سياسية في روسيا، وبضعة كروت جديدة، أمنها له التطرف الذي انتشر في سورية كالضباب، فاستغله بشار “ليخطف رجله” إلى جوبر، حاقناً في وريد مؤيديه بعض الثقة، وملوحاً لداعميه بأن شعاره ما زال المتراس، ولن يتراجع عنه بمقدار كيس رمل واحد. أما الجيوش الإسلامية في الداخل، فهي تتفق على “نبوة محمد”، وتختلف عما سواه، لن تقبل بوسيط مثل دي مستورا، وربما تبحث عن محكم “وَقَذَتْهُ العبادة” من طراز أبو موسى الأشعري، أو حتى عمرو بن العاص، تتطرف برغبها وتخلق لنفسها حضناً شعبيًاً بعنف الخطاب الديني القائم على السوط والسيف. هذه الجيوش معنية أكثر بتوسيع رقعة غنائمها، وما تزال ترى النظام خصماً أبدياً لها، ولكن لديها خصوماً مؤقتين، هم أشقاؤها في التدين. المبادرات بالنسبة لكل هؤلاء بدع، وكل بدعة ضلالة، يجب أن يُقَطَّع مُتَبَنُّوها من خلاف، ويُصلبوا على جذوع النخيل. استحدث هؤلاء مبادرة جديدة لأنفسهم، فأخو البارحة هو عدو اليوم، من دون أن ينسوا التأكيد، عبر حادثةٍ كقتل الزانية الخمسينية، أخيراً، أن هذه العداوة تنحدر من المنبع نفسه الذي تتحرك مياهه صعوداً، باتجاه يخالف الجاذبية، ويعادي كل ما هو إنساني. السؤال الآن: هل سيريحنا الربيع القادمُ من عبث المبادرات؟

العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى