مقالات

بدر الإبراهيم: هل نواجه داعش بتنقيح التراث؟

أثارت حادثة حرق تنظيم الدولة الإسلامية الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، ردود فعل شاجبة، ومعها نقاش حول مسألة الحرق، واستناد التنظيم إلى مقولات تراثية، لإثبات صحة فعله، ما دفع كثيرين إلى ترديد الحديث عن أهمية تنقيح التراث، وتجديد الخطاب الديني، باعتبار التراث مسؤولاً عن نشوء ظاهرة داعش وأخواتها. وإذا أمعنّا النظر في حادثة الحرق هذه، فإنها ترد على مَن يعتقدون أن الخطاب الديني السائد، وعدم تنقيح التراث، سبب ظهور تنظيمات مثل داعش، والدافع الرئيس لممارساتها.

من المهم توضيح عدم وجود إسلامٍ حقيقي، له جوهر ثابت، فالنص الديني يحتمل تأويلات عديدة، وحتى أكثر المتمسكين بحرفية النص، يقوم بتأويله، فالنص لا ينطق بذاته، بل يستنطقه البشر، وفق أفهامهم المختلفة. وبالتالي، ليس هناك إسلام ذو صفات محددة، وإنما هناك تأويلات متعددة للإسلام، لكل واحدة منها صفاتها.

والقول إن علينا العودة إلى الإسلام الحقيقي، يستبطن الاعتقاد باختزال الدين بتأويلٍ واحد، وهذا لا يصدر فقط من المتشددين الإسلاميين، بل، أيضاً، من أولئك المتسامحين والمنفتحين، الذين يدعون، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى إيجاد مؤسسة واحدة، لها وحدها حق التأويل، للمحافظة على “وسطية” الإسلام. وفي هذا إلغاء لباقي الاجتهادات، وإخضاع الدين وأهله لتأويل واحد، ترسمه مؤسسة، هي في الأغلب، تحت سطوة السلطة السياسية.
إذا كان النص الديني يحتمل تأويلات عديدة، فإن الأمر ينطبق على النصوص التراثية، التي هي، في الأساس، محاولات لتأويل النص الديني. تخضع المقولات التراثية لتأويلات عديدة، ونرى كيف يحتدم النقاش حول تفسير مقولاتٍ للسلف بين السلفيين أنفسهم، ما يؤكد أن النصوص التراثية لا تُفهَم بمعزلٍ عن التأويلات المتعددة، كما أنها ليست شيئاً واحداً ثابتاً، فهي مجموعة تأويلات للنص الديني، على مدى عصورٍ مختلفة، وضمن سياقات تاريخية متباينة، وظروف خاصة بزمنها. لذلك، يعكس القول إن نصاً تراثياً بذاته مسؤول عن فعلٍ ما في الحاضر تبسيطاً واختزالاً كبيرين. ما فعله تنظيم داعش بالطيار الأردني يؤكد أن طرح تجديد الخطاب الديني حلاً لمشكلة داعش لن يكون فعالاً.

أحرق الطيار، واستند، في تبرير فعلته، إلى أقوال شاذة وضعيفة في التراث، يواجهها حديث نبوي بعدم جواز الحرق، ويسنده رأي جمهور العلماء والفقهاء المسلمين، أي أن هذه المسألة مرفوضة في الخطاب الديني السائد، وهذا الخطاب ليس في حاجة إلى تجديده في هذه القضية، فهو متجاوز لها. ومع ذلك، نبّش داعش في التراث، ليخرج بتأويله الخاص الذي يخدم تبرير فعله، ولم يكن لسيادة الرأي القائل بعدم جواز الحرق، أي أثر على سلوك داعش، ولم يردعه هذا الأمر عن القيام بفعلته، أو محاولة تأصيلها بالبحث في أقوالٍ أو أحداث تاريخية شاذة، ما يعني أن الحديث عن تجديد الخطاب الديني لا يقدم شيئاً.

استخدم تنظيم داعش الأقوال التراثية ليبرر فعلاً يتناسب مع مصلحته السياسية، فهو حرق الكساسبة بهذه الطريقة، رغبةً في إثارة الرعب في صفوف التحالف، وهو يستخدم أساليب .
مشابهة في إرعاب خصومه، في إطار حربٍ نفسية يشنها عليهم. الحرق، هنا، مصلحة سياسية، تم تبريرها، لاحقاً، بمقولة لابن تيمية، كما ظهر في فيديو الحرق، تتحدث عن التمثيل الشائع، لا عن الحرق، لكن التنظيم فسّرها كما يريد، لخدمة أهدافه السياسية، ما يوضح أن الفعل سياسي، وليس منبثقاً من كتب التراث، لكن تبريره وشرعنته تتخذ طابعاً دينياً وتراثياً.
مشكلة مَن يطرح تنقيح التراث في مواجهة داعش أنه يظن هذا التنظيم حركةً عبثية، انبعثت من كتب التراث، ويمارس أفرادها القتل، لأنهم قرأوا مقولات تراثية سيئة.

هذا التنظيم حركة سياسية، والعنف الذي يمارسه عنف سياسي، يسعى، من خلاله، إلى بناء دولة، وتعزيز نفوذه في مقابل خصومه، وظاهرة العنف السياسي لا يمكن تفسيرها بالحديث عن التراث، فهي وليدة الظروف السياسية والاقتصادية، لكنها تتخذ مبررات أيديولوجية لممارستها العنف، قد تكون قومية أو يسارية أو دينية، إذ يمكن أن نسرد أمثلة لحركات مختلفة تمارس العنف، وفق أيديولوجيات غير دينية، أو أن نجد من يمارس أفعالاً بشعة، مثل الحرق، من دون أن يكون قد قرأ مقولاتٍ تراثية إسلامية، كما أحرق مستوطنون صهاينة الفتى الفلسطيني، محمد أبو خضير، العامَ الماضي.

مواجهة تنظيم مثل داعش، يمارس العنف السياسي، تكون بمحاصرة العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى ظهوره وتمدده، وأهمها فشل الدولة العربية، وصراعات الهوية الناتجة عنه، وبالذات الصراعات الطائفية، والهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية، المُتوَّجة بالتدخلات العسكرية في البلدان العربية، ودعم إسرائيل. هذه العوامل هي الأمر المركزي في نشوء داعش وغيره، من دون نفي علاقة الأيديولوجيا المتبناة من داعش، بتفسير بعض سلوكياته وممارساته.

إيجاد تأويلات جديدة للنص الديني، أمر مطلوب لذاته، وإثارة سجال شرعي وفقهي حول قضايا، مثل الرجم وحدّ الردّة، مطلوب أيضاً. لكن، لا علاقة لهذا بمواجهة تنظيمات العنف السياسي التي تحتاج إلى مواجهة ظروف تشكلها، ومعالجة أوضاع الحاضر التي ساهمت في جعلها تتمدّد وتتضخم بهذا الشكل.

العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى