شحيحةٌ مذكرات السياسيين العرب الجذّابة والصادقة، ذات القيمة المعرفية والتوثيقية التي تُوازن بنباهةٍ بين الذاتي والعام، بين السيرة الشخصية والتأريخ الموضوعي، بأمانة ومسؤولية، وبإيقاع حيوي وشائق في السرد والكتابة. وتكون هذه المذكرات كاشفة بشأن وقائع وحوادث، لها مكانتها في سياقات تاريخية، لا سيما إذا كان حديث الكاتب الراوي عنها يصدر من موقع العارف بها، والشاهد عليها، ويضيء عليها من دون ادعاءات ونرجسيات متورمة، بل بشيء من المراجعة، والشجاعة إن أمكن، وإن وصل الحال إلى “اعترافات” بأخطاء وخطايا.
وربما في محله اشتراط مقادير من إمتاعٍ ومؤانسةٍ في أي مذكرات، كما اشتراط المعلومات الجديدة والخاصة، وفي البال أن دار نشر أميركية رفضت إصدار كتاب “عامي في العراق”، وأعادته إلى صاحبه بول بريمر، وطلبت منه أن يأتي بجديد مهم في مذكراته هذه، فاستجاب، فقرأنا فيها أن التخطيط لغزو العراق كان سيئاً، وأنه، أي بريمر، وجد نفسه، في شتاء العام 2004، وحيداً في بغداد، لا يملك معالم أي استراتيجية واضحة ودقيقة، واقفاً على (احتلال بلا فعالية)، بتعبيره.
في الغرب شغف كثير بكتابة المذكرات والسير الذاتية، وبقراءتها، وهذه صحفنا، نحن العرب، ودور النشر في بلادنا، تتسابق إلى ترجمتها، لجاذبيتها، وللمعلومات، المسلية والمفاجئة أحياناً، فيها. وقد قرأنا، مثلاً، في “رحلة” توني بلير، أنه كان يشرب الويسكي كثيراً في أثناء الحرب على العراق، وأنه تعمّد الغش والكذب في قراراتٍ اتخذها. أما نظيره في السوء، جورج بوش الابن، فلم يستح في مذكراته “لحظة القرار” من أن يكتب أنه “فوجئ” بعدم العثور على أسلحة دمار شامل في العراق، وأنه عمل من أجل إطالة الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان في صيف 2006، وأنه ليس محرجاً في الجهر بأنه أجاز تعذيب محتجزين متهمين بالإرهاب. وفي مذكرات جديدةٍ لها، نقرأ عند هيلاري كلينتون عدم إعجابها بمحمد مرسي، وشعورها بالفخر لقتل بن لادن، وحديثها عن قناة الجزيرة “قوةً ناعمةً” لدى قطر. أما بعلها الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، فيكتب في مذكراته الضخمة، وقد أعطاها عنوان “حياتي”، عن “إذلالٍ وخزي” شعر به في أثناء ذيوع قصته إياها مع مونيكا لوينسكي.
في بلادنا العربية الزاهرة، السياسيون والمشتغلون بالعمل العام مجبولون، غالباً، بالتحفظ، حتى بعد مغادرتهم مواقعهم، وفي غالبيتهم طمّاعون بأن يبقوا في دواليب السلطة، غير بعيدين عنها. وربما يكون هذا من أسباب عدم الوقوع على مذكرات لشخصيات عربية، لها تجارب خاصة في العمل العام، تتوفر على المتطلبات أعلاه، مع وجود استثناءات بالطبع. ونتذكّر، هنا، أن عبد الحليم خدّام، لما خرج من بلده وعن نظامه، قال إنه يعكف على كتابة مذكراته. وبالنظر إلى تجربته العريضة في السلطة في سورية، واحتكاكه الواسع بملفات إقليمية وعربية غير قليلة، فإن المأمول أن يكون خدّام قد دوّن مذكراته، والمأمول أكثر أن تتوفر على الأمانة، وعدم ادعاء الحكمة بأثر رجعي. وهو ما يؤمل، أيضاً، من السياسي اليمني، علي سالم البيض، الذي قال، هو الآخر، قبل أعوام، إنه ينوي كتابة مذكراته، ثم لم ينشر شيئاً.
تداعت هذه الحواشي هنا، بمناسبة إصدار وزير الخارجية السوري السابق، فاروق الشرع، أخيراً، مذكراته (الرواية المفقودة) عن المركز العربي للأبحاث
ودراسة السياسات (458 صفحة). وهي إذ تركز أكثر على مداولات التفاوض مع إسرائيل، إلا أن لها قيمتها البالغة الأهمية في شؤون أخرى. أزعم أن الإمتاع والمؤانسة وفيرتان في الكتاب، وفيه جاذبية حاضرة، توفرها اللغة الأنيقة، والتواضع الرفيع في رواية الوقائع والحوادث، كما الصدق الظاهر، والتوثيق الكاشف. ولهذا كله، وغيره كثير، ثمّة استثنائية ثمينة لهذه المذكرات، في الفضاء العربي الخربان بأطنان من الكذب. وثمّة وقفة أوسع، لاحقاً، لكاتب هذه السطور، مع محتواها وكشوفاتها وخلاصاتها.
العربي الجديد _ وطن اف ام