يقال «شر البلية ما يضحك»، لذا لم يكن غريباً أن يتداول بعضهم على صفحات التواصل الاجتماعي أخيراً، اشتقاقاً لكلمة «داعش» على أساس أنها فاعل لفعل وهمي هو «دَعَشَ» الذي استنبطوا له من المعاني الغدر وسفك الدماء بلا مبرر. هذا طبعاً من باب السخرية وقلة الحيلة ووسيلة للتشفي في مواجهة الخيبات التي تلت سراب «الربيع العربي».
في ظل الواقع الدموي الذي تعيشه دول عربية عدة، من ليبيا إلى اليمن مروراً بسورية والعراق، وبؤر توتر في بلدان تحاول الحفاظ على أمنها واستقرارها، لم يعد ممكناً الاستخفاف بمخاوف من فوضى واسعة ودوامة صراعات دموية. ناهيك عن أن دخول «داعش» إلى الصورة بعد الحديث عن محاولة «الإخوان» سرقة الثورات، يعزز لدى بعضهم نظرية أن سقوط الأنظمة «مؤامرة خارجية» لإيجاد تربة خصبة للفوضى.
وإذا كان من تعبير أشد قسوة ودلالة للعبارة المتعارف عليها أن «الثورات تأكل أبناءها» أحياناً، فهل بات ممكناً القول إن الثورات العربية «دعشت» أبناءها؟
والثورة فكر وسياسات واستراتيجيا، والبندقية تُدمج في سياقها، ليتحول المقاتلون إلى ثوار (عقيدةً ورؤية وقتالاً). والوسائل الحربية تأتي مكملة للوسائل السياسية والثقافية والإعلامية، كلها بمقادير متساوية، لتحقق تراكماً في الإنجازات في سياق استراتيجي.
إن مقولة «القرار من فوهة بندقية» استخدمت ولا تزال، من أجل تحويل الشباب وقوداً للحرب، ذلك أن حمل السلاح وحده لا يصنع ثورة، ففي ظل العقيدة والرؤية يصبح المقاتل «ثائراً» أو «مقاوماً»، لكن إذا اقتصر الأمر على السلاح، فإن دماء تذهب هدراً من دون إنجازات، بل تراكم أخطاء، وصولاً إلى توظيف البنادق والرجال ودماء الشهداء، في عقد صفقات مشبوهة مع الأعداء… وهكذا، تبدأ الثورة بأكل أبنائها.
سعى تيار الإسلام السياسي إلى ملء الفراغ الناجم من سقوط الأنظمة. لكنه بنى على ركام ثقافة الانتهازية والعنف التي كانت تجذرت في المجتمعات، وانعكست إقصاء وتخلفاً وتبعية لدى نخبها، فلا احترام لوجهات نظر مقابلة، ولا شفافية ووضوح في تبني المفاهيم الديموقراطية.
وبدل أن تسير الأمور نحو الضغط على التنظيمات المسلحة، على تضارب عصبياتها وانتماءاتها، للعودة إلى التمدن واعتناق مفهوم الدولة، بات على هذه التنظيمات خوض صراع وجودي مع «منافس» أكثر نزقاً ودموية، يعتنق ثقافة الموت والتكفير وإجبار الآخرين على توقيع «صكوك توبة» تحت طائلة قطع رؤوسهم، كما يحدث في أماكن متفرقة من عالمنا العربي حالياً.
إن الاستسلام لفرضية المؤامرة الخارجية لا يجدي نفعاً في الخروج من الواقع، ما لم تنتفض الغالبية الصامتة للمطالبة باستعادة أمنها واستقرارها، وما لم تدرك هذه الغالبية أن الإصلاح يبدأ بالذات وفي أضيق نطاق ليتسع فيعمّ المجتمع، وما لم تتسلح بنظرية أن «الفطرة الإنسانية السليمة هي كلمة السرّ، وأن ما يخالفها يخالف جوهر الشرائع السماوية ومقاصدها».
في الماضي، كتب جبران خليل جبران يقول: «إذا كان طاغية تريد أن تثلّ عرشه، فاستوثق أولاً إذا كان العرش الذي أقمته له في نفسك قد تحطم. فكيف لطاغية أن يحكم الأحرار والأعزاء، إلا إذا شاب حريتهم استبداد وخالط عزتهم عار؟».
وأضاف: «أما إذا كان هماً تود أن تتخلص منه فإنك أنت الذي اخترته لنفسك، ولم يفرضه عليك أحد. وإذا كان خوفاً تود أن تبدده، فإن أساسه يتربع في صميم قلبك أنت، وليس في يد من تخاف».
وفي تلك العبارات أكثر من عبرة.
الحياة _ وطن اف ام