ما يرد في هذه السطور من وقائع شائعة و”نمطية”، ليس بحثاً في أسباب وتفسير ولادة داعش.. وإن كانت قابلة للاستئناس. تفضل الطبيب السوري معتز، كريماً ، بمصاحبتي مسافة 200 كيلومتر ، في ألمانيا ،غدواً، ورواحاً، زيارةً لصديق، كان يسوق بسرعة، رجوته مرات الرفق بنا، فالجو ماطر، وقد نال، لاحقاً عقوبة صارمة على تجاوز السرعة القانونية. بعد وصولنا من رحلة المجازفات ، بالسلامة ،ذكر لي، معتذراً، أنه كان طول الطريق يسبح بحمد الله.. هذا نمط متدين شائع، يناسبه قول: “لا تَعْقِل، لكن توكّل كثيرا”، والسابح لا التقي العابد، هو الذي ينجو من الغرق. قلت وقتها في نفسي: حقاً، إنه يمكن بغير الخمر أن يسكر الإنسان.
الشاب محمد الذي التقيته قبل ثلاثين سنة، كان ورعاً تقياً، وخطيباً في مسجد إحدى قرى حلب، التي أبيدت لاحقاً بطناجر الطبخ المدمرة، ويبلغ من شدة ورعه، أنه تعروه رقة ورجفة عند توحيد الله! سألته عن أهم آماله في الحياة، وكان جوابه صاعقاً، عندما قال: ألا تضطر زوجتي للخروج من بيتها ! في الخبر سماعاً من فم إحدى أبناء الجالية العربية الدانمركية، أنها نالت جائزة للاندماج مؤخراً، وأعدت المملكة حفلاً تكريمياً لها ، دعت له وجهاء الجالية وكبيرها، وأمام الكاميرات، وتحت الأضواء دعت مندوبها الشيخ لاستلام الجائزة التقديرية الدرع، ولما مدّت جلالة الملكة يدها الكريمة، لتصافحه، حدث حادث غريب، فقد اعتذر، ووضع يده على صدره كما يفعل الهنود، تقوى وورعاً، مما سبب حرجاً كبيراً للملكة والجالية والمشاهدين الأحياء منهم والأموات وللشعب الدانمركي، وبقية الشعوب المحبة للسلام والاندماج، مع العلم أنّ الملكة عجوز تقترب من الثمانين، ولن تكون موضوعا لشهوة، وسببا في إثارة جنسية، لشيخ في الثمانين في حفل عام وملكي مهيب ! كان مؤذن حارة الحميدية الحمصية، التي يتواطن فيها مسلمون ومسيحيون، ذا صوت ندي، كأنه أوتي مزماراً من مزامير داود، وكان يحبِّر صوته في آذان صلاة الصبح تحبيراً، حتى أنّ صديقاً مسيحياً ذكر لي أنه يحرص على سماعه طرباً، وما حدث أنّ بعض الأتقياء الورعين من أهل الحارة كادوا له، واشتكوه إلى الأوقاف، بعد أن علموا أنه مطرب، وهذا سرّ لا يخفى، ويشارك في حفلات ترقص فيها راقصات، وتشرب فيها المنكرات، فقامت الأوقاف بتعطيله عن عمله، وكلفت مؤذناً، لا يغني في حفلات، نكير الصوت.
يستعاذ بالله من صوته ! حاول وجهاء الحي من المسيحيين التشفع، لإعادة المؤذن القديم، إن لم يكن شوقاً إلى صوته فضيقاً من صوت المؤذن الجديد، لكن محاولتهم باءت بالإخفاق، واعتبره بعضهم انتصاراً للمطرب الفاسق. في معجم اليوتيوب أفلام لأوربيين أسلموا بسبب جمال صوت المؤذن، آخرهم الممثل الهوليودي الشهير ليام نيسون الذي أسلم في تركيا، ومن أشهر هذه الأفلام زيارة لصحفية أمريكية إلى اليمن، يصعد معها المضيف إلى السطح، فتسمع أصوات صلاة الظهر من عشرات المؤذنين في آن، فتدمع عينها وسط دهشة المضيف، ودهشتها ! الأتراك يعنون عناية فائقة باختيار المؤذن حسن الصوت والأداء، وإجازة المؤذن أشق من إجازة طبيب الأسنان، وجراح القلب.
وكانت الجزيرة الوثائقية عرضت فيلماً معروفاً اسمه “مقام الآذان”، وتروي كتب التاريخ أنّ محمد الفاتح وضع عشرين شرطاً لإجازة خطيب الجامع أهمها: وضاءة الوجه، وحفظ القرآن، وجهارة الصوت، وإجازة الفقه.. وكان خطيب القرية التي أقمت بها ردحاً من الزمن شاباً تركي الأصل، مشطوب الوجه بضربات سكين، أدرد، أسنانه الناجية من معارك الطعام وحروب الزمن.. سوداء، وعلمت مؤخراً قبل الربيع العربي المنكوب أنه أوفد إلى مصر لتبادل “المعارف والخبرات” مع شيوخ الأزهر.. الشريف ! أرفق أحد الأصدقاء على سواحل صفحتي فيلم فيديو مشهوراً، مطروحاً في معجم اليوتيوب، يقدم الصديق للفيلم بعبارة مشابهة لشارة فضائية معروفة: “بعد مشاهدة الفيلم، مش ح تقدر تترك صلاة الصبح أبداً. في الفيلم يظهر نائم، يؤذن مؤذن لصلاة الصبح فيهمُّ بالاستيقاظ، ثم يتلامح شبح من أشباح هوليود، وأفلام هالوين، بقناعه المرعب، وهو يفح بصوته في أذن المسلم، فيركن إلى وثير الفراش، لكنه ما يلبث أن ينهض متكاسلاً عند جملة “الصلاة خير من النوم”، فيتبعه الشبح إلى الموضأ، وهو يفح بصوته الفظيع، فيتعوذ الناعس من الشيطان فيختفي، ثم يتمكن أخيرا، من الصلاة.. قلما أتدخل في شطحات وثرثرات الأصدقاء، لكني بادرت وقتها إلى تذكير الصديق، بأنّ من يشاهد الفيلم، لن ينهض لصلاة الصبح بعده، فهو فيلم مرعب، وكان يمكن للمخرج أن يجعل سلطان النوم امرأة حسناء “فالدنيا خضرة نضرة”.. وغالباً ما يلجأ الدعاة إلى أسلوب الصدمة والترويع في الدعوة، والشيطان إلى الإغراء فتلك أسلحته.
وقد انقلبت الآية! يصرّ الداعية المصري الناقد محمد الغزالي على شرط صلاح الشيخ لصلاح الدين، ففساد الداعية يؤدي إلى فساد الدين، وعصرنا هو عصر الفتاوى الضاحكة، ليس آخرها ما ذكره المفتي ” علي تعلوب” أنّ مسجد ابن طولون من الأماكن المجابة الدعوة ، لأن ابنته دعت فيه لهطول الثلج في مصر الاستوائية، وسرعان ما استجيب لها…بعد يومين فقط ! يمكن تأليف موسوعة أسمها : “هكذا فلندع ضد الإسلام”، يجدر بالذكر أنّ “الاورينت نت” قبل أيام قليلة، صدّرت تقريراً، فيه أنّ أكثر الكتب المطلوبة من موقع الأمازون هو ترجمة القرآن الكريم، والكتب الإسلامية، وأنه عقب موقعة شارلي “عبدو”، أشهر أربعون فرنسياً باريسياً إسلامهم ! كان من بينهم عضو المجلس البلدي الشاب “مكسانس بوتي ” عن منطقة “نوازي لو كغان” قرب باريس. مما دفع “الجبهة الوطنية الفرنسية” التي يرأسها”ماغين لوبين” إلى وضع عضوية المذكور في الثلاجة، ويبدو أنها أقصى عقوبة للمرتد عن دينه! يمكن تقدير “ثمن” الدين من مقدار العقوبة، و زنِة سماحته، أيضاً، من مقدار العفو. من آمالي عند سقوط الانقلاب، بإذن الله ، أن ازور مسجد ابن طولون ، في أول زيارة إلى القاهرة المقهورة.
المدن _ وطن اف ام