لم يرتبط اسم سورية بالذاكرة الشعبية السورية قبل الثورة، بصفته اسماً دالاً على وطن وحقوق وأمان نفسي وكرامة عيش. كان اسمها يحيل السوري مباشرة إلى الخوف والإذلال والقمع والفساد والمحسوبيات وفقدان الأمل والتفكير بالرحيل للبحث عن فرص عمل، وعن مستقبل مضمون للأبناء. اسمها أيضاً كان يحيل غير السوري إلى الأسد الديكتاتور والنظام الشمولي واللاعب السياسي المؤسطر.
اسمها، في أحيان أخرى، كان يحيل، بشكل خفي، إلى الصراع المذهبي الذي لم يكن علنياً قبل الثورات العربية، فحاكمها من أقلية مذهبية، بينما شعبها يشكل أغلبية مذهبية أخرى أكثر من 75 % منه. وحدهم بعض العرب وبعض يساريي العالم ارتبط اسم سورية عندهم بالمقاومة ضد إسرائيل وبالممانعة وبالعروبة، حيث ألغت سورية شرط الفيزا عن كل العرب الراغبين بزيارتها، وقدمت لهم التسهيلات الكاملة في السعي نحو تأكيد عروبية الحزب والقائد الحاكم ولو على حساب السوريين. ووحدهم، أيضاً، القوميون السوريون، كان الاسم يعنيهم بصفته الإيديولوجية، كسورية الصغرى بوصفها الجزء الأهم من سورية الكبرى. بالنسبة لغالبية السوريين، لم تكن سورية وطناً بما يمكن أن يمثله الوطن، لا حقوق مصونة ولا عدالة ولا مستقبل واعد، كانت أشبه بمكان تجمّعٍ، يضم كل المكونات التي استقرت فيه، والأفضلية لمن يثبت ولاؤه للحاكم.
ربما هذه الخاصية هي السبب وراء الانعدام شبه الكامل للأغنية الوطنية السورية، التي تشكل وجداناً وطنياً عاماً. ارتبطت الأغنية بالنظام مثلما ارتبط الوطن به. كانت كل الأغنيات الوطنية، بطريقة أو أخرى، تقدم الولاء للقائد الرمز الحاكم الاستثنائي، حافظ الأسد. قليلة جداً هي الأغنيات التي نجت من الربط، وتكاد تكون معدومةً، ولا يتذكّرها السوريون، لأنها لم تبث على مسامعهم ليل نهار، ما علق بالذاكرة من الأغنيات الوطنية كانت عن القائد، وبأحسن الأحوال عن حزب البعث. سورية كانت دائماً في الهامش. لهذا، ربما استعار السوريون نشيد (موطني) الفلسطيني الكلمات واللبناني اللحن، ليصبح النشيد الذي يحفز لديهم وجداناً وطنياً كاد أن يكون مفقوداً، مثلما استعاروا أغنيات فيروز عن الشام، بقصائد سعيد عقل وألحان الأخوين رحباني، هذه المجموعة المشبعة بفكر أنطون سعادة ورؤيته عن الهلال الخصيب الذي تشكل سورية قلبه. لهذا، كانت الأغاني عن الشام، لا بصفتها فقط عاصمة سورية، وإنما بدلالتها الإقليمية عن بلاد الشام.
مع بداية الثورة، إبّان تألقها في أثناء المظاهرات الشعبية العارمة، بدأت تظهر ملامح الأغنية السورية الوطنية الشعبية، والتي دخلت بهدوء في وجدان المنتمين إلى الثورة، من ينسى أغنية (يا وطنا وياغالي والشعب بدو حرية) التي غناها الدرعاويون في مظاهراتهم؟ من ينسى أغنية الساروت الشهيرة (جنة جنة جنة سورية يا وطنا)؟ من ينسى أغنية (عاشت سورية ويسقط بشار الأسد)؟ أغنيات كثيرة استعادت وجداناً وطنياً حقيقياً. ولأول مرة، تصبح سورية متن الأغنية الوطنية، سورية بمدنها وقراها وشعبها، سورية التفاصيل اليومية التي تم استبعاد خصوصيتها على مدى عقود طويلة، بيد أن الحال لم يبق هكذا، هذه الصحوة الوطنية الرائعة كان لابد من قتلها وتشويهها بكل الوسائل، العنف والموت والقتل والدم، وما تلاه من رد فعل عفوي ومدروس، أعاد الأغنية السورية الوطنية إلى الهامش من جديد، ليظهر المنشدون الدينيون، وأناشيد الجهاد والسلاح. في المقابل، كان الإعلام الرسمي السوري يبث الأغنيات التي تمجد سلاح الجيش وقائد الجيش، أغنيات حرب وعنف ودم وكراهية، حتى ما كان شعبياً منها، تحول إلى أغنيات تستفز الغرائز ما قبل الوطنية. شيء يشبه حالة السوريين، ويشبه انقسامهم وخلافاتهم الدموية حول كل شيء، بما فيها هوية الوطن. ولعله، من المصادفة، أن يكون حتى النشيد الوطني السوري لا ذكر فيه لسورية أبداً، وإنما هو تمجيد بالجيش الذي لا يصفه نص النشيد بالسوري.
العربي الجديد _ وطن اف ام