ما زال ذلك المشهد المرعب عالقاً في ذهني منذ سنين، يرعش روحي، كلما حركته واقعة ما في الاتجاه نفسه. كان تمثالاً ضخماً لبوذا يعود إلى مئات السنين، بل لأكثر من ألفي عام، تمثالاً منحوتاً من حجر في صخر جبلي بديع التكوين، تمثالاً مهيباً شكَّلته روح الإنسان الذائبة في سحر الكون ومبدعه، فجعلته يحاكي جمال الله في خلقه الطبيعي.
كنت، وقبل رؤيتي ذلك المشهد الفظيع الذي صنعته أصابع القاعدة المتمردة على الله والإنسان، قد قرأت بمتعة زائدة كتاب حياة البوذا لمؤلفه دايساكو إكيدا، ومترجمه للعربية محمود منقذ الهاشمي، وقد أعجبت، أيما إعجاب، بما يقدمه من نفحات إنسانيةٍ، تسمو، في نبل سلوكها اليومي، وممارساتها الحياتية، وسعيها الروحي، للوصول إلى التنور، أو إلى لمعة الإشراق في النفس البشرية، وذلك بمجاهدة النفس وتآخيها الحقيقي مع شقيقاتها، بغض النظر عن اختلاف الشكل وواقع الحياة الاجتماعية.
ويبدو أن تلك القراءة قد عمقت وجعي، حين رأيت على شاشة التلفاز ذلك الصرح الإنساني يتهاوى أشلاء، بعد أن فجرته منظمات القاعدة في جبال أفغانستان الشامخة. وإذا كانت القاعدة تعتقد أن التماثيل ليست أكثر من صور وأشكال جامدة، لا تضر ولا تنفع، فهي واهمة في اعتقادها، وقاصرة في فهمها وإدراكها، وهي عجيبة، حقاً، في منطقها وأفعالها، حتى وإن كان خطيبها قد فلسف وبرر الفعل الشنيع، إذ ربط زوراً بين فعل القاعدة اليوم، وحادثة تحطيم الأصنام لدى فتح مكة.
وأظنني في غنى عن القول المكرر إن الفن روح الحياة، وقلبها النابض بتاريخها الشامل على مدى السنين، تاريخها الاجتماعي والنفسي والجمالي، فالفن معيار تطور أبناء الحياة وسجل أحاسيسهم، وهو صورة عن مدى تفتح عقولهم وأذهانهم، وسمو أرواحهم منذ صُوَرِ الإنسان الأولى على جدران الكهوف. كرهت القاعدة وتنظيمها ومنشئيها منذ تفجير تمثال بوذا، فكيف بي، وهم اليوم يحطمون ثقافة أجدادي في بلاد الشام وما بين النهرين.
لم أحزن عمري كما الآن، وفي هذه اللحظات بالذات، أي بعد رؤيتي ذلك الفيديو المرعب الذي أكد أن القاعدة لا تنتمي إلى بني الإنسان مطلقاً، ومحاربتها، بل ومحاربة كل من ساهم في إدخالها إلى بلادنا واجب وطني وإنساني.
وهي، فوق ذلك، مسؤولية العالم المتمدن أجمع، والعالم مقصر في هذا الأمر، إذ لم يزل يخضع المسألة إلى مصالح متنفذيه، وأهواء قادته. وليست مقاومة داعش في حمل البندقية، بل الأهم من ذلك في محاربة مرتكزاتها الفكرية المتخلفة، وفي تجاوز الذهنية العقيمة في رؤوس أفرادها. وفي معالجة المشكلات الاجتماعية والثقافية التي تعَدُّ بيئة خصبة لنمو داعش ومثيلاتها.
صعق العالم من أفعال داعش فيما أتت عليه في الموصل، وأخذته الدهشة من هذه الممارسات التي تعود بالعالم إلى الوراء، وخصوصاً فئات المثقفين. كتب الدكتور سعد الدين كليب، مدرس مادة علم الجمال في جامعة حلب، على صفحته في “فيسبوك” 26 فبراير/شباط: “يحدد تودوروف مفهوم الأدب العجائبي بثلاثة محددات أساسية، يعنيني منها، هنا، مصطلح التردد الذي يقصد به أننا نقف أمام الظاهرة الأدبية، مترددين بين التصديق والتكذيب، فلا نستطيع أن نصدق ولا أن نكذب، إذ لو صدقنا لصارت الواقعة التي أمامنا طبيعية، ولو كذَّبنا لانتفت الظاهرة من أصلها. وبغياب التردد، يغيب الأدب العجائبي.
أقول ذلك، بعد أن شاهدت فيديو التدمير الحضاري في متحف الموصل. وقبله فيديو الحرق الثقافي في مكتبة الموصل أيضاً. وقبلهما ضرب الرقاب، وبقر البطون، وبتر الأعضاء. وسوق الأسرى كالنعام، وسبي النساء وحرق البشر أو ذبحهم بمشهدية سينمائية عجائبية، وإرعابية في الوقت نفسه، مشهدية لم يعد هنالك أي شيء غير متوقع فيها، لكنها مشهدية لا نستطيع أن نكذبها، كما لا نستطيع أن نصدقها، على الرغم من أنها حقيقة مائة في المائة. فهل نحن في مشهد روائي عجائبي؟
أو في واقع لا تاريخي أكثر عجائبية مما كان تودوروف قد تخيله في تنظيره النقدي؟” ولعل دهشة بعض علماء الدين المتنورين أكثر من غيرهم! إذ كتب الدكتور محمد حبش عضو مجلس الشعب السوري لأكثر من دورة، ورئيس مركز الدراسات الإسلامية، في اليوم نفسه، مستنكراً ذلك الفعل الشنيع، ومحاججاً الذين لم يجد لوصفهم غير كلمة “بجم” العامية، وهي في المفهوم الشعبي تعني الوبش والرعاع، وما إلى ذلك: “إنها الحضارات يا بجم! الدليل الأقوى على تسامح الإسلام وسلوكه الحضاري عبر التاريخ. نينوى مرَّ فيها علي بن أبي طالب، والأمويون، والعباسيون، والحمدانيون، والسلاجقة، والغزنويون، والزنكيون، والعثمانيون..
وكل دولة فيها آلاف الفقهاء ولم يقم أحد بما تقومون به من همجية وضلال..!” ولكن القول الذي تتناقله الألسن في الكواليس، ويمكن أخذه في الحسبان، إنّ ما قامت به داعش نوع من التغطية على سرقاتها الآثار التي برعت فيها، فهي منذ أتت قد وضعت يدها على مراكز النفط والحبوب والآثار، فهي، في المحصلة، ليست أكثر من ذراع للمافيات الدولية المحمية بالنافذين في الدول العظمى وملحقاتها.
العربي الجديد _ وطن اف ام