ليست تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بضرورة التفاوض مع بشار الأسد مفاجئة، فقد اختارت واشنطن، من حيث المبدأ، “الاستقرار”، خصوصاً بعد فشل فصائل المعارضة السورية التي عرضت نفسها بديلاً، يحافظ على استقرار المصالح الأميركية، فشلاً سياسياً وعسكرياً. منذ بدأت الثورة، كانت هناك أسس للسياسة الأميركية، أولها أن واشنطن لم تكن لتسمح بقيام نظام تحرري حقيقي، ودولة مدنية تعددية، تؤسس ولو الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في سورية.
وثانيها أن واشنطن سعت إلى أن تكون الطرف الأهم في تقرير شكل التغيير في سورية، بحيث لا يؤثر على مصلحتها أو مصلحة إسرائيل.
صحيح أن واشنطن رأت في الثورة فرصة لإعادة تشكيل سورية، ليس استجابة لمطالب الشعب السوري، بل لإقامة نظام بعيد عن شعارات المقاومة، بغية فك ارتباط الدولة السورية بكل من إيران وحركات المقاومة من حماس والجهاد الإسلامي إلى حزب الله، لكنها فشلت في تشكيل بديل “معتدل”، يضمن عدم تحويل سورية إلى معبر للهجمات المسلحة مستقبلاً على إسرائيل.
أميركا وكما دائماً، قامت بلعبتها المزدوجة، بتسهيل دخول تنظيمات “إسلامية”، ودعم لها غير مباشر من خلال حلفائها، بغية إحداث واقع يجعل من الثورة حالة إرهابية، تبرر التدخل الأميركي، وبغية إيجاد فصائل تسميها معتدلة، تحت شعار مكافحة “الإرهاب”.
أصبحت السياسة الأميركية تجاه سورية أكثر وضوحاً في محادثات جنيف 1 عام 2012، حيث تطالب بتنحية الأسد، لكنها رفعت شعار مكافحة الإرهاب في سورية، بالتفاهم الضمني مع سورية، إيذانا ببدء تشكيل البديل “المعتدل” سياسيا وعسكريا، في خطوة أقرب إلى نظام الصحوات في العراق، وإن كانت تهيئة البدائل، وليست فقط لضرب المقاومة، كما في بلاد ما بين النهرين.
بالنسبة لروسيا والنظام السوري، فإن مكافحة الإرهاب كانت تجريما للثورة نفسها، وتدعيما لشرعية لنظام الأسد، خصوصاً عربيا، مستغلة تخوف الشعوب والأنظمة معا من التنظيمات المتطرفة. وبالنسبة لواشنطن، كان ذلك يعني بديلاً لا استقلالية له، يؤيد سياسات واشنطن في المنطقة وينفذها.
هنا، يجب التذكير بأن النظام السوري لم يكن يوماً بعيداً عن سياسات واشنطن في مفاصل عدة، خصوصاً وليس حصريا في سنوات ما قبل الثورة، فالنظام تواطأ في ما يسمى الحرب على الإرهاب، بما في ذلك تعذيب “مشبوهين”، أشهرهم خالد عرار الذي نقلته كندا سراً إلى دمشق، حتى يخضع “للتحقيق” في أقبية الزنازين السورية.
وكان النظام قد بدأ تنفيذ سياسة اللبرلة الاقتصادية منذ عام 2005، وهو مطلب أساسي لواشنطن، وتبع ذلك رفع للأسعار وتدهور وضع المزارعين، ما كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة في الأطراف وفي ريف دمشق، ومؤشراً على محاولة النظام التفاهم مع أميركا. ولعب جون كيري الذي كان في تلك السنوات عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي الدور الرئيسي في الوصول إلى تفاهمات مع بشار الأسد، إلى أن بدأت الثورة السورية، ورأت فيها واشنطن فرصة بديلة، لإيجاد قيادة تفك الارتباط مع إيران.
وها هو كيري يعود إلى دوره القديم، ويوجه صفعة إلى أطراف المعارضة التي تخلت عن دورها التمثيلي لطموحات الشعب السوري، طمعاً بالنفوذ الشخصي أو السلطة، متجاهلة أن واشنطن تنشد أدوات ومصالح وليس حلفاء، خصوصاً بعد هزيمة حركة “حزم” أمام جبهة النصرة وقرب وصول تفاهم مع إيران. ويعتمد التغير في السياسة الأميركية على نجاح التفاهم مع إيران، فلا سياسة ثابتة، وهو درس يجب أن تتعلمه المعارضات والأنظمة التي تنسى الشعوب وتتذلل لواشنطن.
العربي الجديد _ وطن اف ام