أفضت ثورات الربيع العربي إلى أحداثٍ ذات طابع طائفي، أورثت كثيراً من القتل والدماء، دفع ثمنها أبناء الأقليات الدينية والقومية الذين لم يتورطوا فيها مباشرة، تماماً كما دفع ثمنها أبناء الأغلبية من المسلمين السنّة والشيعة. وفي مواقع أخرى من العالم العربي، بدا المشهد فيها أقل طائفية ودموية، تصدّرت جماعات سلفية، تنسب نفسها إلى الإسلام، المشهد السياسي، وتسلمت السلطة مراحل معينة، أو شاركت فيها وما تزال.
ومن الطبيعي أن يكون لهذه التطورات التاريخية في منظومة الدولة العربية المعاصرة تأثير مباشر على المواطنين العرب الذين يدينون بديانات أخرى، وخصوصاً المسيحيين العرب الذين ظلوا حاضرين في المشهد العام للعالم العربي، وذوي تأثير فكري واقتصادي وسياسي بيّن فيه، وتحديداً في مصر وبلاد الشام.
وإذا لم يكن هذا الواقع السياسي الجديد مرحلياً أو انتقالياً، وصار مترسخاً وثابتاً، فإن ما قيل، في مرحلة قريبة، عن نفور المسيحيين الأقباط في مصر مثلاً، واتجاههم إلى الهجرة، تماماً كما حدث مع مسيحيي العراق من قبل، ويحدث مع مسيحيي سورية، ربما يتعاظم، وينتج عنه ارتباك اجتماعي كبير، لا يخدم تطوير البلدان العربية وتنميتها، بعد تجاوزها محنتها التاريخية الراهنة.
عرف العالم العربي، في مراحل سابقة، مواقف مثل هذه، فعقب ثورة 23 يوليو 1952، ظهرت مؤشرات على اتجاه الأقباط للهجرة إلى الخارج، بسبب قرارات التأميم التي طاولت رؤوس الأموال التي كان يمتلكها الأقباط، المعروفون، وقتها، بنشاطهم في التجارة والاقتصاد، أو بسبب حل “جماعة الأمة القبطية”، والتي أسسها محامٍ قبطي، هو إبراهيم فهمي هلال في سبتمبر/أيلول 1952، محاولاً محاكاة تجربة جماعة الإخوان المسلمين، خصوصاً على صعيد اتباع نهج العمل الاجتماعي لكسب الأنصار والمؤيدين. وجاء في كتاب (التطوّر الفكري لدى جماعات العنف الدينية في مصر الإسلامية والمسيحية، كامل بحيري، 2008)، إن عدد أعضاء تلك الجماعة وصل إلى 92 ألفا، عشية حلها بقرار قضائي في 1954، بعد ممارسات ذات طابع عنيف قامت بها، منها تنفيذ هجوم مسلح على المقر البابوي، ثم اختطاف البابا وحجزه في مكان خارج القاهرة، بسبب خلافهم معه على إدارته للكنيسة.
وما يمكن قوله، في هذا السياق، إنه بينما كانت الحركات الأصولية الإسلامية تظهر وتنتشر في العالم العربي، منذ سبعينيات القرن العشرين، توازى ذلك مع سيادة أجواء راعية للأصولية بين المسيحيين العرب، الأمر الذي لم يُدرس كفاية على ما يبدو، ولم يجر رصد مظاهره على الشكل الذي نالته الأصولية التي تنسب نفسها إلى الإسلام. على الرغم من ذلك، يؤكد تشابه الأجواء بين المسلمين والمسيحيين أن أزمة العرب الراهنة واحدة، ومردها حضاري لا ديني! وإذا كان من الطبيعي أن ينعكس التغيير السياسي، في كل مرحلة، على مدى رضا المسيحيين العرب تجاه ما يجري في أوطانهم، فإن وقائع الربيع العربي ومخرجاته لن تكون استثناءً، بالضرورة.
الحال أن التنظيمات والقوى الأصولية، وتسعى، باسم الإسلام، إلى تحقيق غايات سياسية، ويتصاحب سلوكها مع أحداث طائفية مع أبناء المذاهب أو الديانات الأخرى، سواء كانت تلك التنظيمات سنيّة أم شيعية، إنما تتجاوز أزمتها مشكلات مثل “التطرف” و”العنف” و”الظلامية”، وصولاً إلى مشكلة أكثر جوهرية، مفادها محاولة تلك التنظيمات إعادة تجريب ما ثبت فشله في التاريخ المعاصر، متمثلاً بتوظيف الأيديولوجيا، لتحقيق إنجازات سياسية. وهذا يعني أن فشل تلك التنظيمات، في آخر المطاف، مصير محتوم، لأسباب تاريخية وحضارية بحتة!
وما دامت تلك التنظيمات تمثل حلقة جديدة في متوالية ما جرى في العالم العربي، منذ انهيار بوادر المشروع النهضوي العربي، فإنها تعبّر عن أحدث درجات الانهيار وأبعدها. يؤكد هذا أن تلك التنظيمات سليلة الانهيارات الحضارية العربية، وليست وليدة أزمة راهنة، وهي سليلة محاولة العرب إعادة الحياة إلى الأيديولوجيات سلاحاً لمقاومة قهر الاستعمار وجبروته، منذ وصوله إلى ديارنا قبل مائة وخمسين سنة، وعلى امتداد العقود التالية. تعيد تلك التنظيمات، اليوم، إنتاج الفشل العربي نفسه. ولكن، بشكل متطرف وإرهابي هذه المرة!
العربي الجديد _ وطن اف ام