في عام 2009 تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه في جامعة القاهرة مناشدا إيران أن تدخل «نادي الدول المحترمة» حال موافقتها التفاوض حول ملفها النووي. وقال «إن بلدي مستعد للتحرك أماما» ولكن السؤال لآيات الله كما قال أوباما «ليس ما تقف ضده إيران ولكن أي مستقبل تريد بناءه؟».
بعد ستة أعوام يعود أوباما إلى اللغة نفسها التي تحدث بها من حرم جامعة القاهرة التاريخي للعالم الإسلامي ويحاول استغلالها للتسويق لما يراه اتفاقا تاريخيا جرى في لوزان بين القوى 5+1 ( أي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن زائد ألمانيا) الأسبوع الماضي وهو اتفاق إطار سيقود لاتفاقية دائمة توقف فيها إيران نشاطاتها في تخصيب اليورانيوم بقدر يمنعها من امتلاك القنبلة النووية.
والطريقة التي سوق فيها أوباما وفريقه المفاوض بقيادة وزير الخارجية الإتفاق تقوم على أن الدبلوماسية هي الخيار الوحيد لحل الملف النووي، فكل الخيارات التي جربت مثل عزل إيران وفرض العقوبات عليها أو التهديد بالعمل العسكري ليست ناجعة.
وكما تحدث أوباما لتوماس فريدمان في مقابلة مطولة في البيت الأبيض يوم السبت الماضي فخيار الدبلوماسية هو الحل، لأن إيران بدون مفاوضات ستحصل على القنبلة النووية مما يعني تعقيد المسألة.
في حضرة فريدمان
وتكشف مقابلة فريدمان عن الطريقة التي ينظر فيها أوباما للمسألة الإيرانية بل والأمة الإيرانية وهمومه حول مصير إسرائيل التي أكد في معظم المقابلة حرصه الدفاع عنها وأتخذ من المقابلة فرصة للرد على الإتهامات التي وصفته بالمعادي لإسرائيل.
كما عبر عن احترامه وتفهمه لمظاهر قلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فنظرة أوباما لإيران تقوم على أنها دولة قوية وكبيرة الحجم مساحة وسكانا ومصممة ولديها قدرة على تحمل العقوبات لسنوات طويلة وصمدت في حرب السنوات الطويلة مع العراق (1980-1988).
وبالنسبة لأوباما فهناك «إيرانان» جيدة وأخرى سيئة وكلاهما مغروس في الماضي والتاريخ.
وعليه يجب التفريق بين إيران الايديولوجية العدوانية وإيران الخائفة والتي تريد الدفاع عن نفسها وترد على الأحداث لأنها الطريقة الوحيدة لعدم تكرار ما حدث لها في الماضي. وهذا يفسر موقف أوباما وحرصه على عقد صفقة مع إيران. ويبدو أن هذه الأخيرة هي جزء مهم في عقيدته التي يعبر عنها في سياسته الخارجية بل وتعبر عن العقيدة نفسها لأن المثالين اللذين أشار إليهما وهما كوبا التي أعاد معها العلاقات مع نصف قرن من الصراع وبورما التي خرجت من العزلة يظلان هامشيين في الاستراتيجية الخارجية وأهميتهما رمزية.
وكما قال لفريدمان فإن عقيدته في السياسة الخارجية تقوم على «التحاور وعدم التخلي عن القدرات».
ويعتقد أوباما ان أمريكا القوية- أقوى دولة في العالم- لديها القدرة على التحاور مع الأعداء والحفاظ على مصالحها القومية حالة نكث هؤلاء العهود. فلا مقارنة حسب أوباما بين إيران وأمريكا «ولا تزيد ميزانية إيران الدفاعية عن 30 مليار دولار وميــزانيتنا الدفـــاعية تصــل إلى 600 مليون دولار، وتفهم إيران أنها لا تستطيع قتالنا».
ويرى أوباما أن منظور نجاح المعاهدة المقبلة مع إيران مرهون بتغيير النظام الإسلامي في طهران تصرفاته وبالإفتراضات والآليات التي سيضعها المفاوضون الدوليون من شروط على النشاطات النووية الإيرانية، حيث يضع أوباما كل ثقته ببرنامج التفتيش.
ويشعر القارئ لعقيدة أوباما حول إيران أنه انشغل لحد الهوس بالموضوع وكما نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن أحد المسؤولين في إدارته فإلى جانب مكافحة الإرهاب ظل أوباما يفكر بإيران ليل نهار. ويعترف أوباما أن الإتفاق لم يتم بعد وهناك الكثير من التفاصيل التي يجب الإتفاق حولها في الأشهر الثلاثة المقبلة ولكنه يظل في نظره اتفاقا أفضل من عدمه.
انقسام
لكن التفاصيل التي خرجت ولا تزال تظهر الطريقة التي أدارت فيها واشنطن المفاوضات مع الإيرانيين وأدت لانقسام في المواقف. ومشكلة الإتفاق هي تسويقه في أوساط المتشددين من الطرفين، أي أعضاء الحزب الجمهوري الذين يسيطرون على الكونغرس والتيار المتشدد في المؤسسة الإيرانية. ففي الوقت الذي أبدى فيه عدد من قادة إيران المتشددين دعمهم للمفاوضات إلا أن آية الله علي خامنئي أكد يوم الخميس أنه لم يوافق ولم يرفض الإتفاق وقال إنه لا يضمن توقيع اتفاق نهائي بحلول حزيران/يونيو المقبل وبالنسبة له عدم التوصل لاتفاق أفضل من اتفاق سيئ في رد على أوباما الذي يرى أهمية التوصل لاتفاق وإن لم يكن تاما أفضل من ترك إيران تواصل برنامجها النووي.
ومن هنا ترى مجلة «إيكونوميست» أنه من الباكر الإحتفال بالإتفاق وهناك إمكانية لخسارة أوباما الرهان خاصة في ظل معارضة الجمهوريين للأتفاق.
وقد حظي اتفاق لوزان بدعم عدد من المتشككين الذين لم يكونوا يتوقعون التزام إيران بالإتفاق المبدئي في جنيف عام 2013 ومنهم غاري سامور، مستشار الرئيس أوباما لقضايا التحكم بالسلاح السابق ومارك فيتزباتريك المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية ولوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي الذي أبدى تشددا في المفاوضات ولكنه وصف اتفاق لوزان «بالخطوة الأولى بل تطور أهم» لكن هذا الدعم لا يمنع فشله في النهاية. ومن هنا يظل الإتفاق محلا للنقاش وقد قيل الكثير حوله وتداوله المعلقون الأمريكيون بالنقد والتحليل والفحص.
ويرى نقاد أوباما أنه سوق اتفاق لوزان بناء على فكرة الخيارات ولكن الداعمين له تناسوا الحديث عن تهديد إيران الذي سيظل قائما حتى بعد الإتفاق النهائي. ويرى المتخصص في الشؤون الإيرانية ريه تاكيه الباحث بمجلس العلاقات الخارجية في مقال نشرته مجلة «بوليتكو» أن فصل المحادثات النووية هو من أكثر الفصول إثارة في التاريخ.
ومع ذلك تظل تبريرات الداعمين للإتفاق لا توائم التنازلات التي قدمت، فالحديث عن انهيار نظام العقوبات وعدم نجاعة الحلول الأخرى المطروحة على الطاولة ليست مقنعة. ويقول تاكيه «ليست هذه هي المرة الأولى التي تكشف فيها إدارة أوباما عن فقر في فهم استراتيجيات إيران ونجاعة نظام العقوبات وطبيعة النظام الدولي». وعلى خلاف ما تؤكد عليه رواية الإدارة بأن يد طهران لن تكون حرة بمواصلة برنامجها النووي، يرى الكاتب أن الإتفاق سيترك الجزء الأكبر من البرنامج النووي الإيراني على حاله.
وسيمنح الإتفاق النهائي ومواعيده النهائية طهران القدرة على تحويل مشروعها إلى مشروع نووي صناعي حسب النموذج الياباني وهو ما يمكنها من تصنيع عدد من القنابل في وقت قصير.
ويشير إلى أن الإتفاق سيستبعد برنامج الصواريخ الباليستية التي تعتبر المكون الرئيسي في البرنامج النووي. ويدعو تاكيه الداعمين للإتفاق تقديم إجابات حول الأسباب التي جعلتهم يستبعدون القدرات الباليسيتية ولماذا تركوا إيران بقدرات على مواصلة التخصيب، مشيرا أن عملية التحكم ببرنامج التسلح النووي يحكم عليه في العادة من خلال الأسس التقنية لا الخيارات المتوفرة.
واتهم تاكيه أوباما ومن حوله أنهم تجنبوا الإجابة على أسئلة لصيقة بالمشروع النووي واتخذوا ملجأ في عالم البدائل.
وينقض ما يقولونه عن زيادة أجهزة الطرد المركزي من 200 إلى 19.000 جهاز وكل هذا تم خلال عمليات الحصار على إيران. لكنهم لا يتحدثون ان 9.500 من هذه الأجهزة لا تعمل. ويشير أيضا إلى أن الولايات المتحدة لا تفهم أن إيران في مشروعها النووي تفضل التقدم ببطء وليس القفز حتى تتجنب المواجهة مع المجتمع الدولي، وهذا الوضع صحيح في ظل العقوبات وبدونها.
وعلى العموم يرى تاكيه أن الإتفاق لن يلغي الخطر النووي الإيراني لأنه لا يأخذ بعين الإعتبار تاريخ إيران في البرامج السرية. ويضيف إنه لم يفت الوقت على تصحيح أخطاء الإتفاق وعلى كيري والحالة هذه الدفع خلال الأيام المقبلة نحو اتفاق يأخذ كل ملامح المشروع النووي ويكشف عنه حتى يحظى بدعم الحزبين في الكونغرس والحلفاء في الشرق الأوسط ويجرد إيران من شهيتها النووية.
بداية وليست نهاية
ويتفق ريتشارد هاس، مدير مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بمقال نشره موقع «بروجيكت سيندكيت» مع فكرة تاكيه حول غياب التفاصيل مع أنه يرى فيه اتفاقا مهما وحجر أساس. ويعتقد أن الإتفاق يعبد الطريق نحو بداية الحديث حول المشروع النووي فهناك الكثير من القضايا الكبرى المتعلقة به وتحتاج إلى تسوية.
ويسوق خمسة تحديات للإتفاق نابعة من المدة الزمنية المتوفرة لإكمال تفاصيله والإتفاق على القضايا الكبرى وموافقة الأطراف المعنية به على نسخته النهائية وسياسات إيران الخارجية غير النووية فحتى لو تم توقيع الإتفاق وتمريره فلن يغير من الواقع شيئا، فإيران ستخرج من المفاوضات بإنجاز حافظت فيه على مشروعها النووي مما سيعزز من طموحاتها الإمبريالية في المنطقة.
وهذا هو السبب الذي يجعل الدول العربية خاصة السعودية قلقة من الإتفاق الأخير لأنه سيعزز من طموحات إيران التوسعية. ويرى ديفيد إغناطيوس، المعلق في «واشنطن بوست» في تقييمه للإتفاق إنه صورة عن رغبة أمريكية للحصول على تسوية مع إيران بأي ثمن والدليل على ذلك الثقوب الكثيرة التي يتوفر عليها الإتفاق.
ولكنه يعتقد أن التحدي الأكبر أمام الإدارة ليس التعامل مع إيران ولكن السعودية ودول الخليج الأخرى.
ويعرف أوباما طبيعة المخاطر المتولدة في الشرق الأوسط والخلاف السني- الشيعي ورغبة الدول السنية مثل مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة الحصول على قدرات نووية مثل إيران.
ومن هنا كان أول ما فعله أوباما الإتصال بالملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز وتوجيه دعوة له ولقادة دول الخليج لقمة في كامب ديفيد لمناقشة طرق الرد والتعامل مع الواقع الجديد في مرحلة ما بعد التقارب الأمريكي- الإيراني.
وفي مقابلته مع فريدمان أطلق أوباما تصريحات ذات معنى، فهو وإن تعهد بحماية حلفائه- السعودية تحديدا من المخاطر الخارجية، بل وأكد على أهمية مساعدة حلفائه العرب كي يحموا أنفسهم من المخاطر الخارجية، لكنه أشار إلى أن إيران ليست الخطر الأكبر على الدول العربية، فالمخاطر تأتي من الداخل: من القمع وغياب الحرية وفرص العمل والشباب الذي لا خيار أمامه سوى تنظيم الدولة.
وفي هذا محاولة للتحرر من مسؤولية الولايات المتحدة عن مشاكل المنطقة وتخليها عن الربيع العربي. ويبدو وعي أوباما بخطر الخلاف السني- الشيعي على مصير برنامجه النووي من دعمه للحملة السعودية في اليمن وإمكانية دعمه لعملية عسكرية تركية في شمال العراق.
ويقول إغناطيوس إن التحدي الأكبر لأوباما هو أن العالم العربي يعاني في مرحلة ما بعد 2011 من «دوار» جعله يشك بنفسه وبالولايات المتحدة.
وفي النهاية يرى ماسيمو كالابرسي في مجلة «تايم» أن الخلاف السني- الشيعي هو ما سيلاحق أوباما حتى نهاية ولايته الثانية في البيت الأبيض. فمع أنه حاز على جائزة نوبل للسلام في ولايته الأولى لدفعه من أجل التصالح في المنطقة فهو في خطر تركها تعيش فوضى دموية.
في قلب معضلة أوباما الشرق أوسطية نظرته لإيران ودورها الإقليمي كواقع لا مفر منه والتزاماته تجاه حلفائه خاصة إسرائيل.
وفي الوقت الذي يقول فيه مسؤول أمريكي أن الإدارة تريد «رؤية إيران وهي تلعب دورا إيجابيا في المنطقة» وفي حل أزمات المنطقة مثل سوريا واليمن، ولو حدث هذا «لريما كان هناك تعاون مع طهران».
لكن الأخيرة غير راغبة بلعب دور بنيوي وهو ما يؤثر على فرص تخفيف أزمات المنطقة. وتعترف أمريكا أن أي حل دبلوماسي يقتضي جلوس السعودية وإيران معا. ونقلت «تايم» عن مسؤول بارز في الإدارة قوله «الطريقة الوحيدة لتخفيف أزمات المنطقة هي توصل كل من السعودية وإيران لنوع من التفاهم» وحتى يحدث فستجبر واشنطن على مراقبة الحرائق وهي تشتعل في المنطقة.
في حسابات الربح والخسارة تظل إيران حتى الآن هي الرابح الأكبر لأنها دخلت المفاوضات متسلحة بالسلاح النووي وخرجت بالسلاح النووي.
القدس العربي _ وطن اف ام