تنصب حالياً جهود إقليمية ودولية حثيثة لفك ارتباط «جبهة النصرة» في سورية عن تنظيم «القاعدة» وزعيمه أيمن الظواهري الذي بايعه قادة الجبهة في تصريحات علنية قبل مدة وجيزة.
وتسبب ذلك في إحراجات كثيرة سواء للجهات الممولة مباشرة أو الداعمة سياسياً في الكواليس، مثل واشنطن التي قال سفيرها السابق روبرت فورد على حسابه على «تويتر» أن بلاده كانت متيقنة من أن بعض الفصائل التي تدعمها مرتبط بـ «القاعدة».
وفيما يبدو أن ثمة «أجنحة» داخل «جبهة النصرة» نفسها، تصدر عنها رسائل متضاربة بين مقبل على هذا الانفصال ورافض له رفضاً كلياً، يبقى واضحاً أن التنظيم الذي مهد لدخول «داعش» إلى مناطق كثيرة من الشمال السوري، قادر اليوم على المراوغة وتحسين شروط مفاوضته عبر لعب دور المتمنع وهو راغب. وتكفي متابعة الإغراءات التي تقدم لـ «جبهة النصرة» لإقناعها بحسنات هذا الطلاق، فيما قادتها مترددون متذبذبون.
ومن الإغراءات مثلاً، زيادة الدعم المالي والعسكري وتنظيف سمعة الجبهة من تهمة الإرهاب والتطرف، وهو ما يعني تلقائياً إزالتها عن لائحة الإرهاب الأميركية ورفع عقوبات الأمم المتحدة عنها، ومعها رفع حظر تمويلها.
ومع ذلك، يبقى تردد قادة «النصرة» غالباً، وهو مفهوم إلى حد ما. فبعضهم سبق أن قاتل مع فصائل «الجيش الحر»، وتلقى وعوداً لم تترجم على الأرض، وما انضمامه إلى «النصرة» سوى نتيجة لذلك الخذلان. لذا، فإن هؤلاء يبحثون اليوم عن ضمانات أكثر وأبعد تأثيراً ليس في أرض المعركة، بل في طاولة المفاوضات.
والحال أن الهدف الأول من فك هذا الارتباط على ما هو واضح أيضاً، هو إعادة تدوير «النصرة» وتسويقها سياسياً بعلامة تجارية جديدة تحمل شعار الاعتدال، والصناعة المحلية. ففي الميدان هي تخضع لمقارنة دائمة إن لم يكن منافسة، مع التنظيم الأقوى والأكثر بطشاً أي «داعش».
لكن الكفة لا تزال ترجح لمصلحتها، ذاك أنها قاتلت نظام بشار الأسد قتالاً لا ريب فيه، وغالبية أعضائها والمنتمين إليها من أبناء المناطق السورية المنتفضة وليست من «مهاجرين» غير مرتبطين معنوياً وأخلاقياً بالمكان وناسه.
يضاف إلى ذلك أن نمطها في التدين وإن قارب الغلو أحياناً يبقى أخف وطأة من تطرف «داعش» واستسهاله قطع الأطراف والرؤوس. وبذلك، فتدين «النصرة» أكثر قبولاً لدى العامة، لا سيما أنه يترافق مع بعض الإنجازات على الأرض، سواء عسكرياً أو خدمياً. ثمّ إنّها خلّصت مناطق كثيرة في بدايات «تحريرها»، من فساد أمراء الحرب وانصرافهم عن مقاومة النظام بالأعمال التجارية والتهريب.
تلك وغيرها حجج تساق اليوم في إطار تبييض سجل «النصرة» وطي صورتها السابقة التي قامت على فضح تجاوزاتها وكشف تواطؤها مع «داعش» حيناً، وانقلابها على الثوار حيناً آخر.
وكما يخضع نظام الأسد نفسه اليوم لبعض «الروتوش» (ومنه مثلاً التشكيك إلى حد التبرئة في استخدامه السلاح الكيماوي، أو الزعم أنه ضامن لمؤسسات الدولة، وأنه أفضل من «داعش»… إلخ) لإبقائه مدة أطول وإرساء فترة انتقالية أقل ضرراً على البلاد، هكذا تسوَّق «النصرة» على أنها المقابل المعقول نسبياً من طرف المعارضة.
والواقع أن ذلك كله سبق أن اختُبر في أفغانستان قبل سنوات أقل من أن تحذفها الذاكرة. فالحديث عن إشراك «طالبان» في السياسة الأفغانية غداة هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كان أقرب إلى الخيانة العظمى. لكنه بعد فترة من القتال العبثي والمكلف مادياً وإنسانياً، أصبح هو الحل الأنسب. وسعت واشنطن بنفسها آنذاك إلى تقريب قادة «طالبان» منها، وضغطت باتجاه تحويلهم شريكاً أساسياً في مرحلة ما بعد الحرب.
وتماماً كما يجري اليوم التمييز بين تيار محلي متدين، ولكنْ غير مؤدلج تمثله «النصرة» وتيار خارجي يمثله «داعش»، كتب الكثير عن كون «طالبان» من صلب النسيج الأفغاني، وأنها تعكس تداخل القبائل وثقافتها، فيما «القاعدة» التنظيم العربي – الأجنبي الحامل الأيديولوجيا الدينية.
ولا شك في أن من تابع تلك السرديات يذكر جيداً مثالاً شاع في فترة «شيطنة طالبان» وهو الظلم اللاحق بالأقليات العرقية والدينية والمرأة. فمن قتل مجاني، وحرمان من التعليم والعمل والخروج من المنزل، والرجم في الشوارع وصولاً إلى اعتبار النقاب الأزرق وقماشه المشبك عند الوجه صورة رمزية عن القفص الفعلي الذي تعيش داخله الأفغانيات.
لكن المفاجأة الكبيرة جاءت، عندما تبين أن ذلك كله بعض من «الثقافة المحلية»، وأنه لا تكفي إزالة فصيل مسلح أو إشراكه في الحكم، لتنزع النساء عنهن النقاب وتعمل المحاكم المدنية وفق القانون الدولي وينتهي الفساد الحكومي والإتجار بالأفيون.
وعليه، وبمقارنة بسيطة مع ما يجري اليوم في سورية، يلوح تكرار سيناريو واحد ستقطف ثماره «النصرة». فكما شمتت «طالبان» بشريكها السياسي المحلي وحليفه الدولي، إذ فرضت عليهما مفاوضتها بالقوة، يمكن «النصرة» اليوم أن تعلن فوزها على الفصائل المسلحة المنافسة وممثلي المعارضة السياسية، والمجتمع الدولي معاً، من دون أن يغير ذلك الشيء الكثير للسوريين. أليس أول البشائر رفض «النصرة» دخول الائتلاف إلى إدلب «المحررة»؟
الحياة _ وطن اف ام