مقالات

ساطع نور الدين : في ذكرى الجلاء السوري

لا تستقيم الذكرى العاشرة لخروج الجيش السوري من لبنان، من دون الرجوع الى تاريخ دخوله الى الاراضي اللبنانية، وهو الحدث الذي يرغب اللبنانيون بنسيانه، ويميل السوريون الى تفاديه، لكنهم يتواطأون معا على التسليم بخرافة تفيد انه كان خلاصاً من الحرب الاهلية اللبنانية، وصونا “لوحدة لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي”، على ما ورد في شعار سوري أثير، رُفع لسنوات طويلة، وأرفق بعنوان ثانوي سقط بسرعة وهو ان سوريا دخلت الى لبنان ايضا من اجل انقاذ الثورة الفلسطينية..

قد يكون شكلا من اشكال التحدي للذاكرة، العودة الان الى تلك الحقبة التي لا تستعاد ابداً، من اجل التثبت مرة اخرى من حقيقة ان الدور العسكري ( والسياسي ) السوري في لبنان كان بمثابة كارثة على لبنان وسوريا وفلسطين، امتدت نحو 29 عاما، وما زالت آثارها ظاهرة حتى اليوم، لا سيما في الداخل السوري الذي يخضع جيشه لواحدة من اهم واخطر المحاكمات لوطنيته وعروبته ووظيفته العسكرية.. التي اكسبتها التجربة اللبنانية خبرات هائلة، من معالمها سقوط هذا العدد الهائل من السوريين بين قتلى وجرحى، عدا عن النازحين.

التسامح الشائع مع فكرة الدخول العسكري السوري الى لبنان في حزيران العام 1976، حتى ولو كان مبرره النسيان، يقود الى تفسير مبتسر للخروج العسكري السوري في مثل هذا اليوم من العام 2005. من الصعب العثور على اصوات تذكر الان انه ما كان يجب ان يدخل الجيش السوري الى الاراضي اللبنانية، وما كان يجب ان يمدد بقاؤه 29 عاما، بحيث اصبحت مهمته واحدة من اطول مهمات “حفظ السلام” في التاريخ الحديث.
ومن المستحيل العثور على اصوات تفتح الافق لنقاش أبعد من كون اخراج سوريا من لبنان عقاباً على إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأقرب الى كونه نتاج الخوف الداهم من الغزو الاميركي للعراق. ثمة حاجة دائمة الى التذكير بان اميركا هي التي أرسلت الجيش السوري الى لبنان وهي التي أخرجته منه. في البداية كان الهدف هو منظمة التحرير الفلسطينية، وكان اليسار اللبناني هو كبش الفداء، وكان اليمين اللبناني هو القربان.

وفي النهاية كان الهدف هو انهاء آخر الطموحات والادوار السورية الخارجية، واقناع النظام السوري بان مستقبله مرهون بحسن إدارته لشؤون سوريا الداخلية، وهو ما فشل به فشلا ذريعا، برغم انه بذل جهداً حثيثاً في اعقاب الانسحاب من لبنان من اجل اعادة تأهيل الجيش السوري.. وتحضيره للحرب الراهنة. ذكرى الجلاء العسكري السوري كانت وستظل تثير إشكالية لبنانية متوارثة عبر الاجيال التي شهدت موجات متلاحقة مع الاجتياحات الخارجية، فانقسمت حولها وتصارعت على الولاء لها، ولا تزال.

ولا يمكن لاحد ان ينسى ان نصف اللبنانيين كادوا يرمون بأنفسهم امام الدبابات السورية لكي يحولوا دون خروجها من الاراضي اللبنانية في العام 2005، وان نصفهم الاخر كاد يبادر الى اطلاق النار على القوات السورية المغادرة.
كما لا يمكن لاحد ان يغفل حقيقة ان تلك المناصفة تقسّم اللبنانيين ما بين تواقين لعودة الجيش السوري الى لبنان، لكي ينتقم لنفسه ولهم، وما بين مترقبين لنهاية ذلك الجيش وإضمحلاله.
هذه الاشكالية هي واحدة من أهم رواسب الذكرى العاشرة، التي لا تتم مقاربتها من اي زاوية لبنانية، لاسيما تلك الزاوية التي تؤكد ان اللبنانيين غير قادرين على حكم أنفسهم وترتيب أمورهم الداخلية من دون تدخل عسكري خارجي.. وهو ما يبدو ظالما الى حد ما لان لبنان ما زال يدار بطبقة سياسية انتجتها الحقبة السورية، وما زالت ذاكرته محكومة بأداء الجيش السوري ، حتى ولو كان هذا الاداء يختصر الان بخبر موت ضابط المهمات اللبنانية القذرة: رستم غزالة.

المدن _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى