صراعات ثلاثة في الوقت الحالي تحمل من الدروس الايديولوجية والتعبوية الشيء الكثير: حرب التحالف الذي تقوده السعودية على اليمن، وحرب الحشد الشعبي العراقي على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وحرب الاستنزاف بين النظام السوري وتنظيمات عديدة من بينها داعش والنصرة.
وكل من هذه الصراعات ينطوي على ابعاد متشابهة متصلة في اغلبها، الامر الذي يمثل حالة نادرة لقراءة تلك الابعاد لاستيعاب جوهر الصراع من جهة، وللاستفادة من ذلك للتخطيط المستقبلي سواء من قبل الحكومات ام المجموعات السياسية. وعندما تستمع لما يقوله ذوو القرار فان تلك الدروس تتحول إلى ما يشبه الحقائق ويمثل قواعد متينة للقراءة التي تقترب اكثر من الموضوعية والحياد.
من هذه الدروس ما يلي: اولا ان استخدام الطائفية سلاحا في المعركة قادر على التحشيد والتعبئة على طرفي الصراع. يمكن القول من التجربتين الحاليتين في العراق واليمن ان هذا السلاح ليس استراتيجيا، ولا يصلح ان يعتمد عليه من يسعى لبسط الهيمنة على المدى البعيد.
فالطائفية مؤثرة لتعبئة الجماهير في البداية، ولكنها سرعان ما تفقد بريقها بعد ان يتواصل الصراع ويوصل البلاد إلى حافة الحرب الاهلية. فقد استخدمت الطائفية عنصرا اساسيا لايجاد حالة استقطاب متزامن مع بدء الصراع. فكأنه الصاعق الذي يفجر القنبلة ثم يفقد دوره بعد الانفجار الهائل الذي يحدثه. فقد اعتمد داعش على البعد المذهبي في كل من سوريا والعراق. وكان لهذه الإثارة دورها في إحداث حالة استقطاب غير مسبوقة في العالمين العربي والإسلامي.
وانتشرت لغة التمايز المذهبي على نطاق واسع من ماليزيا إلى الجزيرة العربية. كما حدثت حالة استقطاب أخرى في سوريا بين داعمي النظام السوري ومعارضيه. وهنا بدا ان هذا الصراع «مذهبي» اولا وسياسي ثانيا. وهنا بدا وكأن الطائفية سلاح فاعل، ولكن تطورات الوضع الميداني والحراك السياسي اوصلت ذلك الخطاب إلى نهاية طريقه. والملاحظ ان الحرب التي شنها بنيامين نتنياهو على غزة في الصيف الماضي برغم فداحتها وما احدثته من دمار ما يزال قائما حتى اللحظة، لم تحدث تغيرا في الاستقطاب المذهبي او الايديولوجي او السياسي الذي احدثته داعش وداعموها في المنطقة. ولكن يمكن الادعاء بان الدعوة المذهبية بدأت تتلاشى في الشهور الاخيرة بعد ان اتضح استحالة حسم الصراع في سوريا عسكريا، وتصاعد الحديث عن تسوية سياسية وبدأت خطوط التمايز المذهبي تتلاشى تدريجيا.
اما العراق فيمكن اعتباره المختبر الاهم في المشروع المذهبي، فتجربته هي الاطول، وساحته الاوسع، وخطر نتائج ذلك المشروع، باي اتجاه كانت، هي الاخطر والاقدر على تحديد مسار امة العرب والمسلمين. وهنا يغفل الكثيرون ان القوى التي كانت الاساس في استقدام امريكا وحلفائها إلى المنطقة لتصبح اللاعب الاكبر في ساحاتها المختلفة، ليس أهل العراق، بل أولئك الذين استدعوا تلك القوى لمواجهة القوات العراقية التي اجتاحت الكويت عام 1990. وادت تفاعلات ذلك التدخل غير المسبوق في التاريخ المعاصر للامة، لاسقاط نظام حزب البعث في العراق، وتبلور ظروف جديدة مختلفة عما ألفته الشعوب منذ عقود.
كان بامكان التجربة العراقية ان تكون الاولى في العالم العربي التي تؤدي لقيام مشروع ديمقراطي حقيقي بديل للاستبداد والديكتاتورية المهيمنة على الشعوب العربية منذ عقود. ولكن استخدمت الطائفية سلاحا لتحويل العراق إلى «حقل موت» للعناصر المتطرفة والمجموعات الإرهابية التي انطلقت في الاساس لمواجهة الغرب. فبعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية اجتمعت ارادة العواصم الغربية و»دول الاعتدال العربي» على ضرورة القيام بعمل استخباراتي كبير لحرف مسار تنظيم «القاعدة» بعيدا عن اهدافه الاساس فيستدرج عناصره إلى العراق ليدخلوا في اتون حرب طائفية لا تضر الغرب شيئا وفي الوقت نفسه تحمي الانظمة الاستبدادية التي تخشى قيام ثورات شعبية ضدها، ولتهمش الاهتمام بالقضية الفلسطينية. ولو انتخب العراقيون رئيس وزراء من المسلمين السنة لما تغيرت اساليب الاستهداف المتبعة حاليا بدعوى الانتماء للمذهب الشيعي. ألم تستهدف تلك القوى الرئيس محمد مرسي الذي انتخبه الشعب المصري عن طريق صناديق الاقتراع؟ ولما بدا ان المشروع الطائفي في العراق يقترب من نهايته، وان توافقا بين ساسته سيؤدي لاستقرار سياسي نسبي وينهي تجربة «حقول الموت» التي دفعت بالامة لخوض صراعات داخلية مدمرة، جاءت تجربة داعش الحالية لتحول دون ذلك.
وفي اليمن ايضا عرضت الازمة وكأنها صراع طائفي، فحدثت حالة استقطاب مذهبي، وهيمن الحديث عن الصراع المذهبي على العقول والنفوس، وبدا ان هذه الامة اصبحت مرتهنة لصراع يمتد بجذوره اربعة عشر قرنا. الملاحظ أن قادة مشروع «الإسلام السياسي» وقعوا في مستنقع السجال المذهبي والمواقف السياسية المرتبطة به، وفاتهم ان ذلك السلاح انما هو موجه في الاساس ضدهم، وقد استخدم بفاعلية لإحداث ظروف مؤاتية لضرب الثورات العربية التي كانوا سيمثلون المستفيد الاكبر منها. وبعد ان اصبح الرأي العام العربي، بفعل إعلام قوى الثورة المضادة، مهيأ نفسيا وسياسيا، بدأت الحرب الجوية بأبشع صورها على اليمن. وتصدرت السعودية المشهد العسكري للمرة الاولى منذ اكثر من نصف قرن، لتكون اللاعب الاول على المسرح اليمني. فحتى القوى السياسية والاحزاب البعيدة عن ذلك الصراع والمعنية بصراعات سياسية وايديولوجية من نوع آخر وجدت نفسها مجبرة على اعلان موقف داعم لتلك الحرب. وبعد شهر من القصف على مدار الساعة اعلنت السعودية فجأة عن توقف العمليات الجوية.
وبرغم عدم التزامها بذلك الاعلان، الا ان هناك شعورا عاما بان تلك الحرب وصلت إلى نهايتها بدون ان تحقق الاهداف الاساسية التي قامت من اجلها. وبعيدا عن الإعلام الحربي الذي يصر على عكس ذلك، فان الحقائق على الارض اليمنية تؤكد فشل تلك الحرب عسكريا وسياسيا واخلاقيا. لقد انحصر دور السلاح الطائفي على البعد النفسي والدعائي، ولكن على ارض الواقع كانت التحالفات ذات ابعاد متصلة بواقع الحياة والنفوذ السياسي وليس بالبعد المذهبي. وهكذا يتجلى ان الطائفية سلاح تكتيكي سرعان ما تلغي فاعليته نتائج الصراعات العسكرية والسياسية.
فأمة العرب والمسلمين التي ما برحت مغلوبة على امرها، تبحث عن نصر حقيقي يعيد لها القدرة على استعادة الكرامة والهيبة والدور. وهذا ما حدث في العام 2006 عندما استطاعت قوى المقاومة الإسلامية في لبنان الصمود بوجه العدوان الاسرائيلي لتحقق ما اعتبر اول انتصار عليه منذ نكبة فلسطين في 1948. يومها تلاشى البعد المذهبي. فالاداء الميداني قادر على دحر المشروع المذهبي والطائفي بشكل فاعل، يفوق السجالات الدينية او الابواق التي تنطلق من الاذاعات والقنوات الفضائية والمآذن لتنشر الفتنة بين ابناء الامة الواحدة وتصنع رأيا جمعيا مستقطبا.
القدس العربي _ وطن اف ام