لعلّ شهادة النائب اللبناني وليد جنبلاط، رئيس «جبهة النضال الوطني»، أمام غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان؛ هي الأبرز، حتى الساعة، ضمن سلسلة الشهادات حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
وإذا كان من الإنصاف، للسجلّ التاريخي على الأقلّ، ملاحظة خلوّ الشهادة من أيّ عنصر جديد، مثير أو حاسم أو دامغ، أو مختلف عن جملة المعطيات، الفعلية أو الافتراضية، التي اقترنت بالملفّ؛ فإنّ من الصحيح، على قدم المساواة، أنّ لا جديد كذلك في سمة طاغية طبعت شخصية جنبلاط على الدوام: التقلّب، الذي يعدّه البعض مكراً سياسياً، ويذمّه البعض الآخر تحت مسميات سلوكية شتى، ويراه فريق ثالث محض تنويعات على غاية كبرى هي حفظ البقاء.
وبمعزل عن ملفات لبنان الداخلية الصرفة، إذا جاز فصلها هكذا أساساً، فإنّ جوهر تقلبات جنبلاط يتصل بالشأن السوري، عموماً؛ وبتاريخ العلاقات، المضطربة والقلقة، بين نظام «الحركة التصحيحية»، أي البيت الأسدي كما يمثّله اليوم بشار بعد أبيه حافظ الأسد، والبيت الجنبلاطي كما يمثّله وليد بعد الأب كمال جنبلاط. وأرشيف الماضي، القريب أو البعيد، الذي سجّل التحوّلات السياسية الدراماتيكة التي انتهجها جنبلاط الابن، خاصة بعد اغتيال أبيه في آذار (مارس) 1976، لا يعني البتة أنه اليوم ليس نزيهاً في تأييد الانتفاضة السورية، وليس راغباً في سقوط نظام آل الأسد، وليس مستعداً للانضواء في أية جبهة داخلية لبنانية مناهضة لما تبقى للنظام السوري من نفوذ في لبنان؛ بما في ذلك الموقف من «حزب الله» عموماً، وقتال الحزب إلى جانب الأسد في سوريا خصوصاً.
ومع ذلك… تلك تقلبات تظلّ بمثابة خيارات يداولها التاريخ، بين حال وحال، كما في وسع المرء أن يفترض؛ إذْ مَن كان سيصدّق «فعل الندامة» الذي مارسه جنبلاط (ونقصد الابن دائماً، ما لم تُعقد التسمية للأب تحديداً)، حين زار دمشق، قبل خمس سنوات، في آذار أيضاً، ذكرى اغتيال أبيه؟ ومَنْ كان سيصدّق أنّ حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، هو الذي أعلن، يومذاك، استعداد الأسد (الابن دائماً، هنا أيضاً) لاستقبال جنبلاط، «في وقت قريب جداً» حسب تعبير السيد؟ وأخيراً، كيف حدث أنّ نبيه برّي، رئيس مجلس النواب اللبناني وحليف النظام السوري، هو الذي استبق الجميع، فأعلن أنّ «ما سيقوله جنبلاط اليوم في مقابلته مع قناة الجزيرة مهم جداً»، بما أوحى أنّ برّي علم بفحوى فعل الندامة حتى قبل أن يظهر جنبلاط على القناة؟ الأهمّ من هذه التفاصيل الشكلية كان مغزى مجيء الضوء الأخضر من نصر الله، بما يفيد بأنّ «حزب الله» هو الجهة الأولى المعنية بقرار استقبال جنبلاط، وليس أياً من الأطراف السياسية اللبنانية، سواء في تحالف 8 شباط أم تحالف 16 آذار.
على أصعدة أخرى، أضعف دلالة، كان مفهوماً أنّ أمثال وئام وهاب وعاصم قانصوه، من رجالات النظام السوري المتخندقين المتجندين، ظلوا بمنأى عن الفريق الذي طبخ زيارة جنبلاط إلى دمشق؛ بالرغم من أنّ وهاب كان أوّل المتطوّعين لاستبصار فعل الندامة واحتمال الزيارة، حين صرّح منذ الصيف الماضي بأنّ «الطريق إلى دمشق مفتوحة بوجه النائب جنبلاط». كان جلياً، كذلك، السبب في أنّ صحيفة «الوطن» السورية ـ المقرّبة من دوائر النظام، والتي يملكها رامي مخلوف، تمساح الأعمال الأشرس وابن خال الرئاسة ـ هي التي اعتمدت تعبير «فعل الندامة»، ولم تكن بعيدة عن الصواب في واقع الأمر؛ قبل أن تنتقل إلى الغمز من قناة جنبلاط لأنه لم يعتذر بوضوح، و»فضّل التأرجح» بين قوى 14 آذار المناهضة لسورية وقوى 8 آذار المؤيدة لها، ولم يكن صريحاً في مواقفه، ولا يقرّ بأنّ القرار 1559 كان «مؤامرة على سوريا ولبنان معاً وعلى المقاومة خاصة».
في المقابل، سجّل التاريخ أنّ جنبلاط، في أواخر العام 2000، تجاسر على كسر محرّم خطير، حين طرح إعادة انتشار قوّات النظام السوري على الأراضي اللبنانية، على نحو كان يمسّ ضمناً شرعية وجودها في الأصل. صحيح أنه عفّ عن استخدام مفردة «الانسحاب العسكري»، واتكأ على اتفاق الطائف لعام 1989، لكنّ مجيء المطالبة من رأس آل جنبلاط (الذين تقول الحكمة الشائعة أنهم أمهر من يقسم لبنان، وأمهر من يوحّده أيضاً) كان لا ينتهك المحرّم، فحسب؛ بل يحرج الرئاسات اللبنانية الثلاث؛ ويربك معظم أنصار النظام السوري، بمَن فيهم أولئك الذين سيصبحون في صفّ خصومه لاحقاً: من إميل لحود رئيس الجمهورية، إلى رفيق الحريري رئيس الوزارة، إلى نبيه برّي رئيس المجلس النيابي، إلى البعثيّ عاصم قانصو الذي هدّد جنبلاط بالقتل على يد «المقاومة اللبنانية!
ثمّ… بعد اضطرار النظام السوري إلى الانسحاب عسكرياً من لبنان، صنع جنبلاط مفاجأة غير مسبوقة حين استقبل، في المختارة، صيف 2006، وفداً قيادياً من جماعة «الإخوان المسلمين» السورية، ضمّ عدنان سعد الدين المراقب العام الأسبق، ومحمد فاروق طيفور نائب المراقب العام ورئيس المكتب السياسي، وعبد القادر زهران مستشار العلاقات الخارجية. ذلك كان تجاوزاُ لخطّ أحمر في عرف النظام السوري، وكان عبوراً إلى ما يقع وراء المحرّمات الأمنية ـ السياسية الكبرى، وحنث بالالتزام الضمني الذي تعهد به جنبلاط مراراً، حول «عدم تحويل لبنان إلى ساحة للمساس بأمن النظام السوري». لكنّ الخطوة كانت، في بُعدها الآخر، مثار استياء المعارضة السورية الديمقراطية والعلمانية، لأنّ جنبلاط بدا كمَن يعطي استبطاناً خاطئاً حول قوى التغيير المستقبلي في سوريا: هل التقى بهم، أوّلاً وحصراً وقبل أيّ فريق سوري معارض آخر، لأنه أيقن بأنّ الجماعة هي الكتلة الأهمّ في وجه آل الأسد، ومن الحكمة التفاعل معهم فوراً، أو مسبقاً، منذ الآن؟ أم اعتبرهم ـ على غرار رأي رهط واسع من المراقبين في الغرب ـ العنصر الأبرز في صفّ، أو صفوف، المعارضة السورية؟ أم كان يستجيب، خفية، لرغبة عبد الحليم خدّام في تبييض صفحة الجماعة، بما يساعد على تنشيط «جبهة الخلاص» الخدّامية ـ الإخوانية الكسيحة؟
والحال أنه يسهل على المستمع إلى شهادة جنبلاط، أمام الحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أن يحجب عنه فضيلة العودة إلى الحصيلة الإجمالية التي صنعتها سلسلة المواقف السابقة، إنْ لجهة الانقلاب على بعضها، أو إعادة إنتاج بعضها الآخر؛ بما يردّ الرجل إلى سوية ليست جديدة عليه تماماً، ولكنها كانت في سبات متعمّد ربما: أنه جنبلاط الابن، الذي لا ينسى، أوّلاً، ما للبيت الجنبلاطي من ديّة دم في ذمّة النظام السوري؛ وأنّ اغتيال أبيه لم يقتصر على تصفية زعيم درزي كبير، بل استهدف أيضاً تفكيك ما كان يُعرف آنذاك باسم «الحركة الوطنية اللبنانية»؛ وأنّ انتصار الانتفاضة السورية، وإسقاط نظام «الحركة التصحيحية»، هو معادلة لبنانية ـ لبنانية أيضاً.
وهذه سويّة ليس في وسع جنبلاط أن يعيد خلط عناصرها، مجدداً، والتقلّب فيها، وعليها؛ خاصة وقد تلازمت عناصرها اللبنانية ـ السورية على نحو وثيق مترابط، فلم تعد تقبل المزيد من ألعاب التكتيك أو حفظ البقاء، بعيداً عن التلازم الحقّ لمسارات الشعبين اللبناني والسوري. ههنا يبقى العود ما بقي اللحاء، كما يذكّرنا أبو تمام الطائي.
المصدر: القدس العربي