الآن، مع بلوغ الجيش العقائدي السوري أقصى حالات التعب والإنهاك، وتَوَاتُرِ هزائمه العسكرية في الشمال والجنوب؛ يمكننا ملاحظة أن الإعلام السوري يعاني من التعب نفسه، والإرهاق نفسه، ويقوم بتصرفات توحي وكأنه مستشعرٌ نهايةَ النظام الذي يدافع عنه، وهذا ما يُفْقِدُه صوابه، ويَجْعَلُه يتصرف على نحو مضحك.
كان هذا الإعلام قد اخترع، على أيام حافظ الأسد، مصطلحات سيميائية قادرة على تحويل أكبر الهزائم التي يُمْنى بها الجيش إلى انتصارات مؤزرة؛ كأنْ يسمي الانسحاب الكيفي، مثلاً، انسحاباً تكتيكياً! ولأجل تبرير عجزه عن الرد على اعتداءات إسرائيل أوجد مصطلح “الاحتفاظ بحق الرد”.
حينما انطلقت الثورة السورية، واتسعتْ، وتعاظمتْ، بدأ النظامُ يسمع صوتَ طقطقة الأرض من تحته؛ فما كان من إعلامه إلا أن رفع نسبة الكذب والدجل واللف والدوران، وحاولَ إظهار أقصى درجات الثقة بالنفس لحظةَ الهزيمة، ففي صيف سنة 2012، حينما سألَ مندوبُ قناة الجزيرة الناطقَ الرسميَّ باسم الخارجية السورية عن موضوع خسارة النظام السوري معبر باب الهوى الحدودي قال: إذا التقينا، أنا وأنت خلال الأيام القليلة المقبلة، سأُذَكِّرُكَ بأن المعبر سيكون معنا.
وحينما بدأت التسريبات الإعلامية الأميركية تشيرُ إلى نية النظام السوري استخدام الأسلحة الكيماوية لقمع الشعب الثائر، وأن أميركا تعتبرُ هذا الفعل خطاً أحمرَ؛ شمَّ النظامُ رائحة خطر يتهدده. وبناء عليه، أصبح الحضور الإعلامي لمسؤول الخارجية المذكور على شاشات الفضائيات شبه يومي، وكان هذا المسكين يضطر لأن يُدلي بتصريحاتٍ يكذِّبُ بعضُها الآخر، فإذا قال اليوم: نحن لا نمتلك أسلحة كيماوية أساساً، يقول في الغد: أسلحتنا الكيماوية ليست مخصصة لقتل الشعب، وإنما للدفاع عن بلدنا في وجه العدوان الخارجي. وعندما يتذكر أن العدوان الخارجي سيأتي من الجارة الحبيبة إسرائيل، يستدرك قائلاً: لن نستخدم الكيماوي، لا ضد الأعداء ولا ضد الشعب. .. دواليك حتى أطلق عليه ناشطو “فيسبوك” لقب “الكذاب المناوب”!
في أيام الرئيس السوري الشاب المتشرب بالمعلوماتية ومنجزات الثورة الرقمية العالمية؛ أصبح مصطلح الانسحاب التكتيكي، على حد تعبير أشقائنا المصريين، (دَقَّة قديمة)، واخترع الإعلام بديلاً عنه مصطلح إعادة الانتشار.
وهذا ما حصل بعد الانسحاب من مدينة إدلب في أواخر شهر مارس/آذار 2015، حينما أعاد الجيشُ الباسل انتشارَه وتموضعه في قرية المسطومة، ونقل أموال البنوك، والسجلات المهمة التي كانت موجودة في الدوائر الحكومية إلى جسر الشغور. وأما الإعلام السوري فقد واكب الحدث بنقله عن القائد العسكري البطل، سهيل حسن، الملقب بالنمر قولَه إن الإرهابيين المدعومين من تركيا والصهيونية ودول الخليج سيضطرون قريباً لمغادرة إدلب تحت ضربات الجيش العربي السوري الباسل، وأجرى قفزة نوعية إلى الأمام، حينما نقل عن الشيخ أحمد شلاش أنه سيحلق شاربيه، إذا لم يَسْتَعِدْ الجيشُ الباسل مدينةَ ادلب، خلال عشرة أيام من فقدانها.
لم يعدم النظامُ السوري تَدَخُّلَ شخصيات فنية وثقافية وأدبية محلية وعربية لصالحه، مختبئة وراء أكذوبة “المؤامرة والصمود”، فكنت تسمع، في آخر كل مقابلة تلفزيونية، الضيفَ وهو يتوجه بالتحية إلى الجندي العربي السوري الباسل، المرابط على خطوط محاربة الإرهاب الذي لولاه لما شعرنا بالأمان أبداً.
هذا الكذب يمكن أن نقول عنه إنه طبيعي (normal)، ولبق، وأما الكذب الزائد عن الحد الـ (over) فمثالُه الممثلُ النجم سلوم حداد الذي أقام في الاستديو حفلة نواح وندب، ليس لها مناسبة سوى أنه رأى، عند باب الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، عسكرياً يحرس المبنى! فقال: تطلعتْ في عينيه شفت فيهم عزة وكرامة و… إهي إهي إهي..
وأما المثال الأكثر عيباً وعاراً وشناراً وسخفاً وتفاهة، فلا شك في أنه يتجلى بتمثيلية تقبيل الحذاء التي قدمتها السيدة كوثر البشراوي على الهواء مباشرة قبل أيام.
العربي الجديد _ وطن اف ام